ما أجمل هذه الأيام التي تسبق وقفة عرفات، وما أجمل أن يترك الإنسان كل ما يشغله عن العبادة والتقرب إلى الله بصالح الأعمال في هذه الأيام المعدودات التي لها من الفضل الكثير، ويتسابق المسلمون في شتى بقاع الأرض من أجل الفوز بأجر هذه الأيام العشرة من ذي الحجة ولياليها أيام شريفة ومفضلة، التي يضاعف العمل فيها، ويستحب فيها الاجتهاد فى العبادة، ومن ثم زيادة عمل الخير والبر بشتى أنواعه، وقد عايشت العشرة أيام العظيمة العام الماضي وكنت في الأراضي السعودية أؤدي شعائر العمرة، ومن بعدها شعائر الحج العظيمة والتي أدعو الله عز وجل أن يتقبلها مني ومن كل حجاج بيت الله الحرام في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وهما من أفضل بقاع الأرض نظرا لما تحتويه من بيت الله الحرام ومسجد وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناهيك عن الشعب السعودي نفسه وما يتمتع به من أخلاقيات ورقي في السلوك والمساعدة لكل ضيوف الرحمن بقلب نقي وسليم، وضحكات اطمئنان لكل حاج ضل طريقه إلى مكان إقامته أو مكان العبادة أو ضل سيره مع الفوج التابع له في الحج.
وقد شاهدت كل هذا بنفسي، ورأيت مدى النظام والنظافة والعطاء الذي يوفره الشعب السعودي والحكومة هناك لأجل راحة الحجاج الذين يأتون من كل فج عميق طالبين من الله عز وجل أن يغفر لهم الذنوب، وأن يكتب لهم حجا مبرورا، وأن يعودوا إلى بلادهم كيوم ولدتهم أمهاتهم.
فالعمل الصالح فى هذه الأيام أفضل من الأعمال فيما سواها من باقى أيام السنة، فقد روى ابن عباس رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إلى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ» يَعْنِى أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ»
وخلال هذه الأيام العظيمة يُستحب الصيام، ليس لأن صومها سُنّة فقط، ولكن لاستحباب العمل الصالح بصفة عامة فى هذه الأيام، والصوم من الأعمال الصالحة، وإن كان لم يرد عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم صوم هذه الأيام بخصوصها، ولا الحث على الصيام بخصوصه فى هذه الأيام، وإنما هو من جملة العمل الصالح الذى حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم على فعله فى هذه الأيام كما مر فى حديث ابن عباس للعشر الأوائل من ذي الحجة فضل عظيم، فقد روى البخارى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، يعنى أيام العشر، قالوا يا رسول الله، ولا الجهاد فى سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد فى سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه، وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء وثواب مضاعف للطاعات التى يقوم بها المسلم عن سائر أيام السنة، وهى من أيام الله، ومن الأيام التى فضلها الله على أيام السنة، وضاعف ثوابها، كما أن صوم يوم عرفة يعد من أعظم الأعمال التي ينبغي أن يقوم بها المسلمون في شتى بقاع الأرض حيث إن صوم يوم عرفة هو سنة فعلية فعلها النبى صلى الله عليه وآله وسلم، وقولية حث عليها فى كلامه الصحيح المرفوع، فقد روى أبو قتادة رضى الله تعالى عنه أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِى قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِى بَعْدَهُ»، فيسن صوم يوم عرفة لغير الحاج، وهو: اليوم التاسع من ذى الحجة، وصومه يكفر سنتين: سنة ماضية، وسنة مستقبلة كما ورد بالحديث..
على كل حال لابد خلال هذه الأيام وما بعدها من المحاسبة النفسية على كل ما قدمت أيدينا وما أظلمنا فيه العباد وما أعظم المحاسبة الصادقة أمام الخالق التى لا يغبر عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا السماء، وعن ماذا قدم الإنسان لرب العزة والوطن ووالديه، ولزوجته، والأطفال وما قدم الإنسان لجمال الدين وصدق العمل والحق والمودة مع أخيه الإنسان!
لابد وأن يغيب الصوت العالى والكبت والخشنة واللغة التى امتلأت بالكراهية والعداء وعدم المودة وعلى الإنسان تقديم الهشاشة والبشاشة لأخيه الإنسان ونحن في أحلك الظروف والتى تعطيه حالة من الحب والترابط والصلة بينهم، فنحن نحتاج إلى رحمة الله في هذه الأيام وأن ندعو له بإخلاص شديد أن يرفع عنا الظلم في الحياة كلها، وأن يخفف علينا من الضغوط، وأن يرحمنا ويحفظ بلادنا من كل شر، وأن يكتب لنا زيارة بيت الله الحرام مرات ومرات أملا في أن يغفر لنا ربنا ذنوبنا، وأن نحسن عبادته وختامنا يوم العرض عليه.