غزت وسائل الاتصال الرقمية بيوتنا ومكاتب أعمالنا، صرنا نكاد نتنفس بالموبايل وقبلها كان ما يشابهه، وإن اختلفت المسميات جهاز الكمبيوتر ثم اللاب توب والآى باد، نتابع بريدنا (الإيميل)، وما يُكتب عن راهننا الحياتى فى المواقع والمدونات وشبكات التواصل الاجتماعى من فيسبوك وتويتر وواتس وغيرها، حتى كاد التواصل اللاسلكى بين الناس بصريا سمعيا يتجاوز بل به قد يُستغنى عن المقابلة المباشرة الحية، كل هذا التمثل والحضور أحال الشبكات الرقمية إلى رفيق المخزن والحاضنة، كل اهتمامه مهما كان تقليديا أو مستحدثا تتدفق المعارف والمعلومات كتبا ومذكرات ورزنامة مقروءة مرئية مسموعة، وأتيحت المدونات والحوائط والتغريدات كتابة يومية لكل مريد وراغب وبهذا يحضر العالم بلمسة بين أيدينا وتحت بصرنا صرنا المستقبلين والمرسلين.
وعلى الرغم مما يثار ويطرح من آراء متكشفة دوره أو إعلان مواقف من التحذير إلى شن دعوات للقطيعة مع ذلك الغول بما فرضته علينا مسالك العولمة ومنها التقنية الرقمية، إلا أنها تطرح علينا سؤالا لازما، فالمتابع لمواقع التواصل الاجتماعى سيكتشف أنها صارت مجالا للتعبير عن الذات كما بث الانشغال الذهنى كما المهنى الذى يظهر فى شكل مواد تُضخُ عاجلا أو بموعد مضروب على صفحات معنونة توضع لمتابعين يتشاركون الاهتمام ويتعاطون معه إعجابا وتعليقا ومشاركة كتوسيع لدائرة المعرفة والاطلاع.
ومن ذلك ليس لنا أن ننكر أن شبكة الإنترنت أتاحت تكوين جماعات وأفراد للدفاع عن عناصر ثقافتنا الشعبية بجعلها محط تداول وتعاط، وفى رصد لصفحات تنشغل بالتراث الشعبى بنوعيه المادى واللامادى ستظهر علينا مئات منها بل قد تزيد، وفى ليبيا توفر شبكات التواصل (فيسبوك وتويتر وواتس) الشواهد والمادة الخام من المواد الشعبية على امتداد جغرافيتها، إذ يفتح صفحات تخصهم الشعراء والشاعرات، وهواة جمع وتوثيق المسرودات من أمثال وحكايات وسير ونوادر وعادات وتقاليد وطقوس، وأزياء ومطبخ تقليدي، وأكثر ما يلفت الانتباه ويبدو مفارقا فى استمراره حيا إلى موروث يومنا هذا ويُؤلف ويصاغ، وهو نموذج شفاهى شعرى نثرى ببيت واحد يجرى حفظه وتوثيقه من قبل ناقله الذى عادة ما يكون حضر جلسة سمر أو اقتنصها من لسان مؤلفها لحظة قولها، هذا اللون هو «غناوة العلم» ما يجرى تعريفها بقصيدة البيت الواحد حسب المؤرخ والأديب الليبى خليفه التليسي، وسينشغل الكاتب والقاص أحمد يوسف عقيلة بجمع «غناوة العلم» معتنيا بتوثيق مؤلفها كما مستبطنا محللا لماهيتها مع تعريفه بدلالات ألفاظها فى كتابه المتفرد غناوة العلم (٢٠٠٨).
ولنا أن نطرح أسئلتنا حول ثقافتنا الشعبية على شبكات التواصل الاجتماعي، هل نعتمد هذه الوسائط الرقمية حافظة وموثقة ومن ثم نتيح موادها للبحث والتحليل، والتى يعمل أفراد وجماعات عبرها على حفظ وتوثيق مخزوننا الشعبى المعرض للضياع والاندثار؟ إلى أى مدى نعتمدها كبديل متاح ومصدر موثوق يوفر المادة الشواهد منها صوتا وصورة بمقابل معوقات التواصل المباشر وعدم توافر ظروف الانتقال للجامعيين الميدانيين الدارسين إلى مجتمع الحفظ والتوثيق، إذ تصير المادة بين أيدينا رقميا؟ هل العوائق التقنية من هاكرز وفيروسات (الاختراق) تفتح الباب لعمل عكسى من الرقمى إلى التقليدي (المكتوب)، إذ يجرى جمعها وتوثيقها عبر إصدارات ورقية تصل إلى أيدى الباحثين والمهتمين.
فنموذج غناوة العلم والتى حدودها الشرق والوسط الليبى ما ينشغل بها كثير من المتابعين على شبكة الإنترنت وعبر الموبايل، حضورها الطاغى يطرح سؤالا، ما الذى يجعل غناوة العلم- قصيدة البيت الواحد وبمتنها الحكائى، إذ هى أيضا نتاج موقف وحكاية نابضة حية إلى يومنا هذا مثار اهتمام وإفراز وجدانى لفرد لتكون نصا حيا بلاغة وحكمة تتبادلها الأجيال الجديدة شفاهة وكتابة عبر موبايلاتها وحوائط الفيسبوك والتويتر، وهل تماثل وتتجاور فى بنيتها ملفوظ ومعنى العصر ومتغيراته. اتفاقية اليونسكو (المادة ١٥) فى «صون» التراث الثقافى اللامادى ومصطلح الصون له دلالته بها، وتشكل مرجعا للاستناد إلى أهمية دور الأفراد والجماعات فى الحماية والحفظ والتوثيق، فهل ننتبه للزخم الكبير من المادة الشعبية بتنوعها التى يجرى بثها من أصحابها، حامليها على شبكة الإنترنت.
