نستكمل ما بدأناه فى الأسبوعين الماضيين حيث وددت أن أتحدث اليوم عن اثنين من أبرز أعضاء المكتب العربى بالقاهرة أحد أقوى الأجهزة المنفذة للسياسة البريطانية فى الشرق العربى، وهما توماس إدوارد لورانس وجون فيلبى، فدعونا نبدأ:
الكولونيل «توماس إدوارد لورانس» ١٨٨٨ - ١٩٣٥، والذى اشتهر بـ «لورانس العرب» خريج جامعة أكسفورد، انضم عام ١٩١١ إلى بعثة بريطانية للتنقيب عن الآثار بالعراق، قبل الحرب العالمية الأولى، كان قد تعلم اللغة العربية، وتنقل فى بلاد الشام، ثم ألحق بالمخابرات الحربية البريطانية فى مصر، كما ألحق بالمكتب العربى.. فى كتابه «أعمدة الحكمة السبعة - Seven Pillans of Wisdom، London، ١٩٢٦» والذى نسج فيه هالة من القداسة والأسطورية حول شخصه، والكتاب نفسه وصف لورانس «بأنه أكبر عمل أدبى حديث يتساوى مع رواية الحرب والسلام لتولـستوى».
كتب لورانس عن العرب «لا أدرى كيف يمكن للإنسان أن يثق بالعرب أو أن يأخذهم على محمل الجد.. أنا عرفتهم جيدًا ومعرفتهم لا تساوى العناء الذى تحملته لكى أعرفهم».
فى نوفمبر عام ١٩٦٨ نشرت صحيفة التايمز وثيقة بخط لورانس يقول فيها «إننى فخور ومستريح الضمير، لأن الدم الإنجليزى لم يسفك فى المعارك الثلاثين التى شهدتـها، فالعرب الذين أتقنت خداعهم وسقتهم بمئات الألوف إلى مذابح انتصارنا لا يساوون فى نظرى موت إنجليزى واحد، وكنت أعرف مبكرًا أن وعودنا لشريف مكة لم تكن تساوى الحبر الذى كتبت به».
وتزامن ما نشر فى التايمز مع ما كتبه الصحفى الأمريكى «إدجار مورر» فى شيكاجو تريبيون: أنه ذهب إلى الأردن ليتقصى من شيوخ القبائل عن دور لورانس، فأقروا أمامه أن «لورانس كان جبانًا وكذابًا ومخادعًا، لم يشترك فى معركة واحدة، ولم يكن له دور فى القيادة، بل كان لزعماء القبائل الدور الأكبر مثل الشريف ناصر بن على وبخيت بـن درويش وسالم الرصاعى وعودة بـن أنجاد، وحتى الألغام التى ادعى زرعها على خطوط السكك الحديدية كان يقوم بها ضباط إنجليز وعرب منهم: عبدالقادر الجندى ومولود مخلص والشيخ عودة الحويطى، أما دور لورانس الحقيقى فما تعدى نقل العملات الذهبية الإنجليزية إلى الشريف والقبائل البدوية لشراء ولائها»! ويضيف ادجار: «لم يكن لورانس إلا كذابًا دعائيًا جعل منه البريطانيون بطلًا فذًا وعبقريًا».
هذا هو لورانس الذى أطلق عليه «ملك العرب غير المتوج» و«سلطان الصحراء العربية» والذى حمل أرفع النياشين البريطانية، وقامت السينما الأمريكية بتخليده فى فيلم شهير قام ببطولته الممثل المصرى عمر الشريف.
وفى كتابه «ثورة فى الصحراء - Revolution in Desert» لخص لورانس سياسة بريطانيا فى جملة بالغة الدلالة: «لقد وضعنا بمهارة مكة فى مواجهة الأستانة والقومية ضد الإسلام».. واستطرد بأنهم فكروا فى مستقبل العالم العربى بعد الحرب العالمية الأولى، ووجدوا أنه ينقسم إلى قسمين، ففى الشمال دول متقدمة نسبيًا لوجود أنهار وفيرة وحضارات قديمة وطبقات نالت حظًا من التعليم، بينما فى الجنوب صحراوات جرداء لا يزال البترول فى باطنها، وكتب: «لو أننا أعطينا الاستقلال للدول المتقدمة نسبيًا، فسرعان ما تتقدم وتتحول للصناعة وتصبح خطرًا علينا، ولذلك منحنا الاستقلال لليمن والحجاز، وفرضنا الحماية والانتداب على العراق وسوريا ولبنان وفلسطين».
هكذا لخص لورانس سياسة الغرب فى تقسيم العرب ومنع تقدمهم اجتماعيًا واقتصاديًا وعلميًا! والولايات المتحدة التى ورثت الإمبراطورية البريطانية، تطبق نفس السياسة، فتضع «الثروة العربية فى مواجهة القوة العربية» حتى يفقد العرب جميعًا القوة والثروة معًا!!
وتجدر الإشارة إلى أنه طوال الثلاثة عشر عامًا الأخيرة من حياة لورانس، كان ونستون تشرشل وزير المستعمرات يرفض لقاءه - وهو الذى كان من أشد المقربين - ثم لفظه بعد أن أدى دوره.. ومع ذلك عند وفاة لورانس، أمر أن يدفن فى مقبرة سان بول التى تضم رفات أعظم قادة بريطانيا!
الحاج عبدالله فيلبى!!
الرحالة الأشهر وصاحب المؤلفات التاريخية والجغرافيا، الغزيرة والضابط والدبلوماسى ١٨٨٥ - ١٩٦٠، والذى كان مستشارًا سياسيًا للملك عبدالعزيز، ومن قبل الحرب العالمية الأولى، كان يعمل فى الظاهر كمسئول عن الدائرة السياسية فى البصرة، لكنه فى حقيقة الأمر كان عضوًا بمكتب المخابرات الحربية البريطانية فى البصرة، كما كان عضوًا بالمكتب العربى بالقاهرة.
اسـتـوقفتنى فقرة دونها فيلبى فى كتابه «أربعون عامًا فى البرية» ص ١٧٥ جاء فيها «هناك كراسة تربطنى بلورانس، وهى تتعلق بفكرة تحويل خارطة الشرق الأوسط، كانت تلك الكراسة بعنوان - الأروقة المقنطرة لحقبة زمنية منسية - من المحتمل أن تكون بالفعل قد أدينا دورًا فى ذلك التحول»! والأمر المؤكد أنهم أدوا أدوارهم ببراعة - تظاهر بالإسلام عام ١٩٣٠ وأدى فريضة الحج واشتهر بالحاج عبدالله فيلبى، وأصبح من أقوى المقربين حتى أثار بعضًا من البلاط الملكى - فى المؤامرة الواسعة التى دبرتها بريطانيا وفى إطارها وزعت عملاءها وجواسيسها.
فيلبى يتظاهر بمناصرة آل سعود، ولورانس يتظاهر بمناصرة البيت الهاشمى، وجيرترود بل تتظاهر بمناصرة أمير حائل ابن رشيد، حليف الأتراك وعدو آل سعود.. كان لورانس يأمل بأن يحكم الأشراف الجزيرة العربية كلها، على الرغم من قناعة فيلبى مبكرًا وعلى خلاف رؤية المكتب العربى: «أن رجل الأقدار فى جزيرة العرب هو عبدالعزيز آل سعود وليس الشريف حسين بن على، هو رجل المستقبل القادر على تنفيذ سياسة بريطانيا فى المشرق العربى» وتناول فيلبى تفاصيل الحروب الطاحنة بينهما، بعد أن تدهورت علاقتهما حتى وصلت إلى درجة القطيعة والعداء، لم يكن عبدالعزيز ليرضى بأقل من سحق الهاشميين فى الحجاز، بينما يفاوض فيلبى الهاشميين ويتظاهر بمناصرتهم بوصفه «المشير الناصح الأمير» ويزود القبائل بالمال والسلاح لكى تنضم لصفوف الوهابيين.. كانت الثورة العربية فى أوجها، وعد الشريف حسين نفسه ملكًا للعرب، الأمر الذى لم يكن مقبولًا لدى عبدالعزيز وتطلب الأمر زيارة من رونالد ستورز لابن سعود فى الرياض لينقل له الأهمية التى تعلقها الحكومة البريطانية على الملك حسين.
كما تحدث فيلبى عن دعم الأشراف والقبائل العربية بالعملات الذهبية الإنجليزية وعن حاجة بن سعود إلى المال والسلاح إذا أرادت منه بريطانيا أن يحقق هدفها، لا سيما أن جميع وارداته لم تكن لتربو آنذاك على المائة ألف جنيه فى العام تضاف إليها منحة سنوية قدرها ستون ألف ليرة ذهبية يتقاضاها من بريطانيا.
وبينما كانت بريطانيا - ممثلة فى لورانس وفيلبى وستورز - تسرف فى وعودها للشريف حسين، وعقب توقيع اتفاقية سايكس - بيكو بنحو خمسة أسابيع كان الهجوم الكبير على الحامية التركية فى مكة المكرمة، بالتزامن مع قصف الأسطول البريطانى لحصون جدة.
نستكمل الأسبوع المقبل إن كان فى العمر بقية.