قبل أن نبدأ في الحدوتة دعونا نجدد اتفاقنا وهو أنني أكتب هنا بلسان الطفل المتلقي لتلك الأحداث، أسرد من زاوية أخرى غير المراجع وكتب التاريخ، أشرح كيف كان وقع التجارب السياسية على في مراحل عمري كنموذج لجيل عاصر هذا وذاك فتشكل وعيه واشتعلت بداخله « جذوة التصنيف» فأشعل من يخالفه الرأي دون أن يكون لهذا أو ذاك من الأساس رأي، جيل بل أجيال جُبلت على تشجيع فرقة ما بالهوى وبالوراثة وكأن الله استرد ما ميزنا به عن سائر خلقه.. جيل شاهد الريف يخلع عباءته رويدا رويدا قبل أن يفكر أهله فيما سيرتدونه، فلا ثوب المدينة نفعهم ولا عباءتهم القديمة ظلت لهم، فصار حال أهل القرى مثل الفلاح الذي اعتاد على ارتداء الجلبية، وأمام التمدن ترك فأسه وبحث عن «المهية» ولو كانت جنيها من الحكومة، فتحول من معيل لمعال، وكان لزاما عليه أن يرتدي قميصا وبنطلونا، فتحايل بلبس جلبية وأسفل منها بنطلون فإذا كانت هناك «كبسة» وضع الجلبية في البنطلون، فصار «ألاجا» وإذا مرت المحنة أخرج الجلبية من البنطلون فعاد "المعلم عواجة".
لم يكن المعلم «عواجة» مجرد خادما لإحدى الأضرحة وحسب، بل كان له هيبة وهالة وخاصة بين النساء، كان الضريح في طريقي إلى «الكتاب»، ولم يأخذني الفضول يوما إلى أن ألقي حتى نظرة داخله، منذ الصغر وأنا أرفض التبعية بدون إعمال العقل، أرفض أن يفرض على شيء وقد منحني الله حرية الانتقاء والاختيار، ولكني كنت أحب لعبة صندوق الدنيا في الموالد، ذلك الصندوق الخشبي الذي تنظر فيه بعينك فيتحرك شريط صور أمامك تدقق وتدقق.. تبحث عن فكرة.. عن امرأة.. عن حلم.. عن ضحكة.. تعاود تكرار المشاهدة مرة وراء مرة فلا الصور تغيرت ولا أنت وجدت ضالتك ولا تدري أيكما يخدع الآخر أنت أم صاحب الصندوق؟.. بعد مرور العمر وحينما تجد ضالتك في الصندوق الأكبر تدرك أن ما هداك إليها سوى صندوق المولد الصغير.
لم تكن صورة المعلم «عواجة» هي الأولى في الشريط لكنها استوقفتني، وضعت «قالبين من الطوب» حتى مسكت بشباك الضريح وبالكاد نظرت من الشباك الصغير، مجموعة من النساء يقفن أمام.. رجل بعمامة خضراء.. تقبل إحداهن يده.. وتلعقها الأخرى، وتمد ثالثة له ابنها فيتفل في وجهه فتمسح بيديها رأس الغلام ووجهه مستبركة، ورابعة ينثر على رأسها التراب.. وخامسة يعطيها حجابا.. لم يكن المعلم عواجة يعرف شيئا عن كل السنين التي سبقت جلسة ذلك الرجل، من أين أتى ومن أعطاه الحكمة أن وجدت.. ممن استمد فكره وقوته لا يعرف.. فقط هو شيخه وابن شيخه الذي رأى منه من المعجزات ما يجعله رهن إصبعه، يجعله يقطع «الكيلوهات» مع حماره حتى يستقبل عمنا الشيخ، الذي يعود راكبا الحمار والمعلم عواجة ساحبا إياه ويدخل القرية منتشيا وكأنه جاء بعزير وحماره.
سك بكلتا يداي في حديد شباك الضريح، وأخذت أتجول بعيني داخله، حتى وقع نظري على «عمنا الشيخ»، وهو يجلس متكئا بظهره على الضريح ومن أمامه المعلم عواجة ينظم الناس، الذين يتدافعون لتقبيل يد «الشيخ»، إحدى النساء تتقدم بطفلها، تميل على أذن المعلم «عواجة»، فيشير لعمنا الشيخ بسبابته على عين الطفل، ثم يمسك برأسه ويقدمها له، فيبصق الشيخ فيها، تبتهج الأم وتأخذ طفلها وتنصرف، ثم تتقدم أخرى وفي قدمها جرح، يقبض الشيخ على حفنة من تراب بجوار الضريح يضعها في جرحها، فتنتشي وتنصرف، رجل ثالث يخبر المعلم «عواجة» أنا ابنه يتكلم بصعوبة حتى يكاد لا يفتح فمه، يستدير المعلم «عواجة»، ويحضر «إبرة» يعطيها لعمنا الشيخ، فيبلها بريقه ويمسك الطفل ويغرس الإبرة في خده الأيمن، يصرخ الطفل.. يكبر «عواجة» والحضور.
تعبت من «الشعلقة» على شباك الضريح، فصحت: «خلصوا بقى إيه النمرة الجديدة»، لم يكن استهزاء مني، بل كان راسخا في اعتقادي أن هذه الأمور ليست حقيقية ولكنها تحدث من قبيل التسلية، كتلك التي كنا نشاهدها في الموالد، كرصاصتين صوبا نحوي كانت عيناي المعلم «عواجة»، التصقت يداي بحديد «شباك الضريح»، وارتعدت فرائسي، لم أدري سوى والمعلم «عواجة» يمسكني من «قفايا» ويقذفني في الجو لأسقط على الأرض سقط مدوية، أزحف إلى الخلف وهو يتقدم علي، أنظر حولي علا أحد ينقذني، فإذا بي أرى على مقربة مني رجل كبير من أقاربنا، صوتي لا يسعفني.. أشير إليه في استنجاد.. ينظر إلى ولا ينبس ببنت شفاه.
كانت «علقة ساخنة» هذا أقل ما يمكن أن توصف به، فرغم صغر يد «عواجة»، إلا أنها كانت مثل الكرباج، والحقيقة أنه لو وقف الأمر عند الضرب لكنت سامحته، لكن عواجة سمم أفكار العديد من أبناء جيلي، فيكفي أنه جمع ذات يوم الصغار حينما توفي أحد الإخوة المسيحيين في قريتنا، وجلس كجهبذ يخطب فينا: «إياكم تروحوا عند دار المسيحيين عشان القسيس جاي دلوقتي، فقلت له وهل القس يخيف أليس مثله مثل الشيخ عندنا، بصق عواجة في وجهي، وقال لي: لماضة أمك دي مش هتخليك تنفع، افهم ياض علشان ما تنضربش تاااني، المسيحيين هيروحوا النار.. قاطعته مين اللي قالك يا عم عواجة؟ هو أنت شغال هناك، ضحك العيال، فاستشاط عواجة غضبا وقذف في وجهي بحفنة من تراب، وقال ما أمنوش بالنبي يا غبي، رددت عليه وإنت آمنت! هو النبي كان قال تخرموا بوق العيال بالإبرة وتقولوا بركة، ولا النبي كان قال تسبوا وتلعنوا وتكفروا الناااس، صرخ في وجهي وقال لي ما أنت مش متربي ولا تعرف حاجة هتعرف إزاي وبيتكوا طول النهار شغال فيه الراديو أغاني، صاح العيال واستنكروا ردي وطالبوني بالصمت، فقال عواجة، المسيحي لما بيموت بيحطوه على الأرض ويبعتوا يجيبوا القسيس ومعاه خرزانة، وبينزل ضرب على الميت بتاعهم وهو بيقول.. تموتي ليه أكلك كتير تموتي ليه.. وبعدين يحطوه في خشبة ويدقوا مسمار فيها من فوق علشان لما الميت بطنه تتنفخ المسمار يطرقعها».
«منا من صدق حكاية عواجة لكن الفضول لدي دفعني لأن أذهب إلى حيث بيت المتوفي، وفي الحقيقة وجدت المسلمين الجالسين أكثر من المسيحين، اندسست بين الأرجل، فوقعت عيني على «مغسلة»، ولم أرى خرازنة ولا مسمارا، سيرت معهم حتى المقابر، فدفنوه، فانصرفت وأنا أسب «عواجة»، وقررت أن أفضحه أمام «العيال»، فجمعتهم وذهبنا إليه وحكيت له ما رأيت، وأخبرته أن ما رواه لنا لم يحدث منه شيء، لكن «عواجة» على قصره وضعفه كان ماكرا، فصمت لبرهة وقال هناك سر لم أخبركم عنه خوفا أن ترددوه بين الناس، ولكن حتى لا تظنوا أنني كذبت عليكم، هذا الرجل الذي مات ليس مسيحيا، وهم يعرفون ذلك جيدا لذا لم يضربوه بالخرازنة، هذا الرجل جاء لي قبل موته وقال لي يا شيخ «عواجة»، إني أسلمت، صاح «العيال» الله أكبر، وأنا أقول في بالي «يا بن اللئيمة يا عواجة»، ألم يجد إلا أنت ليتحدث معك! نحن كرهنا الإسلام بسببك».
ورغم كذب عواجة وزيف ادِّعاءاته إلا أن الشك ظل يراودني والمعلومات المغلوطة لا تحاصرني أنا فقط بل تحاصر الجميع، حتى أنك تسمعها من رجال كبار في السن، كقول لا تنفرد بمسيحي في بحر فلو كنت بمفردك لأغرقك ولو كان حولكما ناااس لتظاهر بأنه ينجيك.
ظللت هكذا حتى نسف عم إبراهيم ميشو ذلك الاعتقاد وتلك الأفكار، حينما رأيته يركب هو وأبناؤه «نجارة المسجد»، وحينما أذن لصلاة الجمعة جلس يستمع الخطبة، ثم بعد أن فرغنا من الصلاة، قام ليكمل عمله، رأيت الخير من قائدي المسيحي في كتيبتي بالجيش المقدم «سامي»، ثم من أصدقائي في العمل، رأيت الإنسانية والاحترام والود من زملائي في "البوابة القبطية" ، ثم رأيت عظمة المصريين في زلة لسان لشيخ جليل وهو ينادي في ميكروفون مسجد القرية على وفاة عمي إبراهيم ودون أن يدري يقول: «توفى إلى رحمة الله تعالى الحاج إبراهيم ميشو»، رأيت جنازة الرجل وعزائه من المسلمين والمسيحين فأدركت أننا طاوعنا الدين وطوعناه، عرفناه بالفطرة وأحببناه.. وأن كل شائبة تطفو يوم على السطح هي من صنيع عدو أراد أن يعكر صفو المحبة بيننا.