أنهيتُ فى المقال السابق حديثى عن استهلال الشاعر الجاهلى قصيدته بالوقوف على الأطلال وبكائها، واليوم أستأنفُ حديثى عن سلسلة التطور التشكيلى لمقدمة القصيدة العربية، متناولًا المقدمة الفروسية فى شعر الصعاليك.
ثانيًا: المقدمة الفروسية فى شعر الصعاليك:
الشعراء الصعاليك: هم أولئك الشعراء الذين تمردوا على سلطان قبائلهم، فجاء شعرهم معبرًا عن ذاتهم، مسجلًا صدى نضالهم من أجل إبراز هذه الذاتية، ومظهرًا لتحررهم من القيود المجتمعية التى تكبِّلهم، وكان من بين هذا التحرر، التخلص من المقدمة الطللية، والاستعاضة عنها بمحاورة النساء اللواتى يشفقن عليهم من الوقوع فى المهالك.
وهؤلاء النسوة اللائى يتحدث إليهنَّ الشعراء الصعاليك، ليست المرأة المحبوبة، التى يقف الشاعر على أطلال ديارها، ويدعو أصحابه إلى الوقوف معه، ويبكى أيامه معها، ولكنها المرأة المُحِبَّة، الحريصة على فارسها، التى تدعوه دائمًا بالمحافظة على حياته، إن لم يكن من أجل نفسه فمن أجلها هي.
وليس من شكٍّ فى أنه استهلال بارع أن يضع الشعراء الصعاليك فى مستهل قصائدهم صورة للأنثى الضعيفة، التى يظهر صاحبها إلى جوارها بطلًا قويًّا مستهينًا بحياته من أجل أفكاره ومبادئه، يرفض نصيحتها برفق، ويقابل جزعها بابتسامة الواثق بنفسه، المعتد بشخصيته، ويحاول أن يقنعها فى قوة وإيمان بسداد رأيه، وسلامة مذهبه فى الحياة.
ومكمن البراعة هنا يرجع إلى وضع صورتين متقابلتين فى مشهد واحد، صورة المحبة الجزعة التى تخشى على فارسها المهالك، وصورة الفارس المعتد بنفسه، وهو وضع يذكرنا بفرسان أوروبا فى العصور الوسطى؛ حيث كان لكل فارس امرأة يضع كل مفاخر حياته بين يديها، ومن ثم يمكننا أن نطلق على هذه المقدمات النسائية عند الشعراء الصعاليك «مقدمات الفروسية فى شعر الصعاليك» فى مقابل «المقدمات الطليلة فى الشعر القبلي».
وتبرز هذه الظاهرة بوضوح عند «عروة بن الورد»، فكثير من قصائده تبدأ بحوار بينه وبين صاحبته، وهى تلومه وتعاتبه على مخاطرته بحياته، وتغريه بالبقاء جانبها، تارة بمعسول القول:
تَقولُ سُليمى لَو أَقمتَ لَسـَرَّنا
ولم تَدْرِ أَنى للمُقام أُطوِّفُ
وتارة أخرى بدموعها الحارة الملتهبة التى تنسكب من عينيها الجميلتين:
تقولُ ألا أقْصِـرْ من الغزو، واشتَكى
لها القولَ طرفٌ أحورُ العين دامع
وتارة ثالثة بتخويفه الأعداء الذين يتربصون به:
أرَى أُمَّ حَسَّان الغَدَاةَ تَلُومُنِي
تُخَوِّفُنِى الأعْدَاءَ وَالنَّفْسُ أخْوَفُ
أما هو فيُجيبها فى رفق، بأنه لا يفعل هذا إلا من أجلها:
ذَرِينى أُطَوِّفْ فِى البلادِ لعلَّنِي
أخَلِّيكِ أو أغْنِيكِ عن سُوءِ مَحْضَـرِ
فكل ما يطلبه أن تتركه ونفسه ليشترى بها المجد الخالد، والأحاديث الباقية، قبل أن تفلت منه الفرصة، فيصبح عاجزًا عن البيع والشراء، يعنى بيع النفس وشراء الأحاديث:
أَقِلّى عليّ اللّوْمَ يا ابنَةَ مُنْذِرِ
ونامي، فإن لم تَشْتَهِي النّوْمَ فاسْهَرِي
ذَرِينى وَنَفْسي، أُمّ حَسّانَ، إنّني
بها قبلُ أن لا أملِكَ الأمرَ مُشْتَرِي
أحاديث تبقى، والفتى غيرُ خالد
إِذا هُوَ أَمْسى هامَةً فَوْقَ صَيِّر
فهو يطلب من زوجته أن تتركه ونفسه كى يشترى بها المجد الخالد، ولم لا وهو الذى لا يهاب الموت، ويتساءل: هل يملك الإنسان تغيير ساعة منيَّته، وهل يضمن الحياة إذا تخلَّف عن المغامرة؟ انظر إليه يقول:
فإن فاز سَهْمٌ للمنية لم أكن
جزوعًا، وهل عن ذَاك من مُتأخَّرِ
وهذا البيت شبيه ببيت «الشَّنْفَرَى»، الذى يستهل به قصيدته البائية الشهيرة؛ إذ يستهلها بحديث إلى صاحبته بأن تتركه وشأنه الذى هو ماضٍ إليه، ولتقل بعد مُضيِّه ما تشاء، فكل ما يعرفه، أنه لن يموت إلا مرة واحدة:
دَعينى وَقولى بَعدُ ما شِئتِ إِنَّني
سَيُغدَى بِنَعـشى مَرَّةً فَأُغَيَّبُ
والواقع أن عروة يُعدُّ خير من يُمثِّل هذه الظاهرة من بين الشعراء الصعاليك، وفى كثير من قصائده ومقطوعاته نرى هذا اللون من أحاديث الفروسية، وربما كان السبب فى هذا راجع إلى طبيعة مركز عروة فى حركة الصعلكة الجاهلية باعتباره زعيمًا لها، ومشرِّعًا لفلسفتها، وواضعًا لتقاليدها الاجتماعية والفنية.