وفى المبتدأ نؤكد أن هذا العنوان ملتبس، فالدين المقدس قائم ثابت لا يتغير ، وفى الإسلام هو القرآن والسنة المؤكدة .. وفقط . ما بعد ذلك هو فقه .. أى رأى بشرى ، فهم يختلف عن فهم آخر وفى بداية الأمر ومنتهاه رأى انسانى يأتيه الصواب ويأتيه الخطأ .
على ابن طالب أكد ذلك "القرآن لا ينطق وهو مكتوب وإنما ينطق به البشر ، وهو حمال أوجه" وهذه الأوجه قد تستر عواراً شديداً ليس من الاسلام فى شيء، ورسول الله يقول "تحقر صلاة أحدكم الى جانب صلاتهم ، ويحقر صوم أحدكم الى جانب صومكم ، وهم يقرأون القرآن ولا يجاوز تراقيهم [أى حلوقهم] . ويحسم القرآن الكريم الأمر "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً" [الكهف- 104] وأيضاً "يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً"[النور - 39] ونعود الى رسول الله إذ يحذرنا "سيخرج من أصل هذا الدين قوم يقرأون القرآن ولا يجاوز حناجرهم ، ويمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" والأئمة المعترف بهم من الجميع يلتزمون بأن رأيهم هو فى نهاية الأمر مجرد رأى ، ويجوز عليه الخطأ والصواب .. الإمام الشافعى يقول "رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرنا خطأ يحتمل الصواب" والإمام أبو حنيفة يقول نفس الشئ "رأينا هذا هو أفضل ما قدرنا عليه ، فمن جاءنا بأفضل منه قبلناه" والإمام مالك يحسم الأمر لكل من أراد فهم صحيح الدين فيقول "كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد ما عدا صاحب هذا القبر" ، وأشار الى قبر الرسول، والصحابى الجليل أبو ذر الغفارى يكاد أن ينفطر قلبه حزنا على الدين الذى اتخذه المتقاتلون على السلطة ستارًا بعد أعوام فقط من رحيل الرسول فيقول "والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هى من كتاب الله ولا سنة نبيه ، والله إنى أرى حقا يُطفأ ، وباطلا يحيا ، وصدقا مكذبا وأثره بغير تقى" . ولأن معرفة الكتابة كانت متعثرة فى سنوات الفجر الاسلامى فقد تناثرت الروايات الشفوية بل تسيدت، ودس المتقاتلون على السلطة والسلطان ما شاء لهم خيالهم الممعن فى تحقيق مصالح شخصية ، أو قبلية أو جهوية من أكاذيب وحكايات وروايات لا يصدقها عقل عاقل وتحول البعض منهم إلى ماكينة إفتاء يفتى بما يعرف وما لا يعرف ، ويكذب على الله ورسوله فى سهولة ويسر [وهو ما يحدث فى أيامنا، فإن كانت الفتوى تتطلب البحث والتروى والنظر فى فقه قديم وحديث والملائمة بينه وبين الواقع ، فإننا نرى من يظهر فى التليفزيون وقد زركش لحيته ولفلف عمامته ليفتى على الفور ومن الذاكرة، ويتطور الأمر إلى إفتاء مباغت بالتليفزيون ، وكل هذا سبوبة تدر مالاً وفيراً لكنه سحت] ونقرأ لابن القيم "من أفتى الناس بمجرد النقل من الكتب، على اختلاف أعرافهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم فقد ضل وأضل وكانت جنايته على الدين" [أعلام الموقعين – الجزء 3- صـ78] ويقول الإمام القرافى "ينبغى للمفتى إذا ورد عليه مستفت ألا يفتيه بما عادته أن يفتى به حتى يسأل عن بلده ، وهل حدث لهم عرف فى ذلك البلد أم لا" [الإحكام فى تمييز الفتاوى عن الأحكام – صـ323] وعلى ذات الطريق يصيح الإمام محمد عبده "لا ينبغى للإنسان أن يذل فكرة لشئ سوى الحق ، والذليل للحق عزيز ، ويجب على كل طالب علم أن يسترشد بمن تقدمه سواء كانوا أحياء أم أمواتا ، ولكن عليه أن يستعمل فكره فيما يؤثر عنهم فإن وجده صحيحا أخذ به وإن وجده فاسدا تركه " [تاريخ الأستاذ الإمام – صـ762] .. وهكذا تتحدد أمامنا إشكالية التلقى عن التراث . فنحن نواجه أحاديث مكذوبة . بعضها أتاه الخطأ عبر تداول الرواه جيلاً بعد جيل ، وبعضها مكذوب عن عمد كتلك التى اخترعت لدعم معاوية وحتى لدعم الموالى الفرس ، ونواجه بفتاوى مرتبكة بعضها يمحو بعضا، وتراث مسطر فى مئات الكتب تحمل سيرة عطرة فى قليل منها وتفسيرات وتأويلات وحكايات وشروح لا يمكن لعقل أن يقبلها .. فماذا يمكن للمسلم العاقل أن يفعل ؟ لا حل سوى أن يعمل العقل ويختار ، يختار ما يتفق مع العقل ويرفض ما لا يتفق معه .. أليس هذا هو الطريق الصائب؟ ونواصل .