الثلاثاء 07 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

محفوظ.. يا شعب مصر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قضيت بعضا من طفولتى فى بورسعيد حيث كان أبى «رحمه الله» يعمل ضابطا بأمن الموانى، وأتذكر المرارة التى كنت أشعر بها كلما سافرنا منها إلى القاهرة، ونحن نقف بالسيارة فى المنطقة المخصصة لتحصيل الرسوم الجمركية على المشتروات، وذلك للمشهد المتكرر الذى كنا نراه فى كل مرة، وهو اصطفاف المهربين الذين تم ضبطهم والذين كانوا يقومون بتهريب الملابس من خلال ارتدائها، وكنا نتعجب من كم الطبقات الكثيفة التى يرتدونها حتى فى شدة الحر، ونحزن ونحن نراهم وهم يخلعون تلك الطبقات من الملابس أمام السيارات والمارة، وهم يتعرضون للإهانة والضرب، وما إن تمر السيارة من منطقة الجمرك، حتى نرى المهربين الذين أفلتوا من الضبط وهم يخلعون تلك الطبقات من الملابس فى منطقة القنطرة.. ولا أعلم لماذا كان يتم الضبط عشوائيا، فيضبط البعض أو يتم تفتيشهم دونا عن البعض الآخر؟.
وقد كنت أعتقد أن تلك الظاهرة قد انتهت، وخاصة لما يتردد عن تدهور الأحوال العامة والتجارية فى بورسعيد، حتى شاهدت الفيديو الذى تم تداوله بكثافة مؤخرا، والذى تم نشره على الموقع الإلكترونى لمحافظة بورسعيد، ويتضمن حوارا أجرته موظفة بالعلاقات العامة بالمحافظة، مع بعض الأطفال الذين تم ضبطهم أثناء تهريبهم للملابس مقابل يومية قدرها 150 جنيهًا.. أعادنى هذا المشهد لنفس الألم والحسرة التى كنت أشعر بها، فلم أتمالك دموعى وأنا أرى بعضا من الأطفال المقبوض عليه، وأيديهم مكبلة بالكلبشات الحديدية، ونظرات الخوف تملأهم، ودموع بعضهم، وضحكات الاستهانة من البعض الآخر، أما آخرهم فكان الطفل «محفوظ» بروحه المتمردة وعيونه الناقمة على المجتمع، ونظرات التحدى وهو يرد على كلمات اللوم والتأنيب من المحاورة، ويعبر عن عدم اقتناعه بالقبض عليه هو وزملاؤه بسبب بعض الملابس، بينما يتركون كبار المهربين يفلتون بالملايين!!.. فجاءت كلماته بلكنته الصعيدية وطريقته البسيطة لتدين المجتمع، وتعبر عن الحديث الشريف: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ، تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ، أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَأيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا».. ورغم أن البعض انتقد لغته وطريقته فى الحوار، ولكن لا يجب أن نلقى عليه باللوم هو أو غيره نتيجة غياب دور الدولة.. صحيح أن الأسرة لها الدور الأول، ولكن فى ظل الظروف المجتمعية التى نعيشها كثيرا ما نرى غياب دور الأسرة، بل على العكس قد يكون دورها سلبيا، فكم من الأسر الفقيرة التى تنجب الأبناء بهدف أن يصبحوا أيدى عاملة وهم فى ذروة طفولتهم، حتى يعيلوا أسرهم أو يساعدوا فى الإنفاق عليهم.. وبالتالى عند غياب دور الأسرة يجب أن تكون مؤسسات الدولة حاضرة، تربى وتؤهل حتى لا يتحول هؤلاء الأطفال الضحايا إلى مجرمين، ثم نلفظهم كمجتمع.. وحتى يحدث هذا يجب ألا نقسو عليهم، فكل منا هو ابن ظروفه ونشأته وبيئته.. وقد تعاطفت مع السيدة سلوى التى قامت بإجراء الحوار مع الأطفال، بسبب ما تعرضت له من هجوم، لأننا كالعادة نترك الكبار ونحاسب الصغار.. فهى كما أقرت تم تكليفها بإجراء الحوار من المحافظ، رغم أنها غير مؤهلة لذلك، طبقا لما أقره سيادته!!.. ولعل هذا الفيديو يكون سببا لفتح هذا الملف من الدولة، والاهتمام بهذه الفئات من الأطفال، حتى يتحولوا وقودا للبناء ولا يتركوا للهدم. ونتمنى من الرئيس السيسى أن يعجل بتنفيذ وعده قبل ترشحه للرئاسة، بأن تتم إعادة تأهيل أطفال الشوارع، فكما أقر سيادته آنذاك «أن الإنسان الذى أهدرت كرامته فى الشارع بحاجة لبرنامج لإعادة وضعه من العدم الذى يعيش فيه».. لذلك نتمنى أن نرى نتائج مشروع «أطفال بلا مأوي» الذى تم الإعلان عنه منذ وقت كبير بالتعاون بين وزارة التضامن وصندوق تحيا مصر.. فكل يوم يمر دون حلول جذرية تتفاقم المشكلة ويزيد ضحاياها، وهم للأسف أعداد كبيرة لا يستهان بها، حيث قدرت هيئة الأمم المتحدة للطفل «‬يونيسيف» أن عدد أطفال الشوارع فى مصر بلغ 2 مليون طفل تقريبا، بينما جاء فى إحصائية المجلس القومى للطفولة والأمومة أن عدد الأطفال يبلغ حوالى 16 ألفا.. وقدرتهم وزارة التضامن الاجتماعى 16019 طفلا فى 27 محافظة.. ورغم أن التقديرات المحلية الرسمية أقل، إلا أنها تظل أعدادا كبيرة ومؤثرة، لذلك نتمنى أن نرى حلولا عاجلة لتلك المشكلة، وحتى نجد مأوى آمنا ليس فقط لمن ليس لهم مأوى، ولكن لمن لا يجدون الرعاية من أسرهم.. وكفانا قسوة على بعضنا البعض، ولنعلم جميعا أن ما نبغيه من قيم إنسانية لا يمكن أن يتحقق طالما سنظل نحاسب الصغار دونا عن الكبار.