تلقيت دعوة كريمة لحضور مناقشة رسالة الدكتوراه بمقر كلية العلوم الإقتصادية بمنطقة سموحة بالأسكندرية، وهى كلية وليدة عمرها 3 سنوات، لكنها استطاعت بفضل علمائها الأجلاء أن يضعوها فى المكان الذى تستحقه على الخريطة العلمية ذلك بفضل المكانة الرفيعة لهذه النخبة الممتازة من الأساتذة الذين يقودهم بكل ثبات ومنهجية حديثة عميدها الفاضل الدكتور عماد محمود إسماعيل حيث تحولت إلى إحدى كواكب وثوابت جامعة الأسكندرية فى هذه الفترة القصيرة لتصبح صرحًا علميًا جديرًا بكل تقدير وافتخار.
هذه مقدمة لابد منها، وإذا كانت هناك من إضافة فهى ثالث رسالة دكتوراه لهذه الكلية الوليدة فلم تعد تحبو لكنها أثبتت أنها فى كل صباح علمى تتألق وتتعملق والرسالة حول إشكالية الأحزاب السياسية فى مصر وكيف يمكن أن تثرى العمل الوطنى، قدمها الباحث الشاب على عبدالمطلب نصر وعلى مدى 4 ساعات كاملة اشتعل فيها الحوار، وانطلقت الآراء العلمية المنهجية تملأ أجواء قاعة المناقشة بالسخونة العلمية والمصداقية والآراء التى شارك فيها أعضاء لجنة الحكم منهم الدكتور صلاح الطاهر المشرف على الرسالة العلمية هو وعميد الكلية الدكتور عماد إسماعيل، وشارك فى المناقشات الدكتور العالم أحمد أبوضيف من جامعة قناة السويس، كما شارك فى المناقشة أيضًا الدكتور أسامة أحمد العادلي.
وقبل الحديث عن وجيز لما دار من حوار فإننى تذكرت على الفور ذلك الحوار الساخن الذى استمر ثلاثة أيام عام 1981م باستراحة المعمورة بين الرئيس السادات وأعضاء نادى هيئة التدريس بجامعة الأسكندرية، وقاد الحوار وقتها الدكتور عاطف غيث عميد كلية الآداب، ووقتها تولى رئاسة نادى أعضاء هيئة التدريس بالجامعة هذا النادى صاحب الموقف التاريخى مع ثورة يوليو حيث كان أول هيئة فى مصر أعلنت تأييدها لحركة الجيش ولم يكن الموقف قد وضح بعد، خاصة وأن جامعة الأسكندرية وقتها كانت هى جامعة فاروق الأول، وهو الذى افتتحها وكان لايزال وقتها موجودًا داخل البلاد وأرسل هذه البرقية عدد من شباب النادى برئاسة الدكتور رشوان فهمى الذى أصبح بعد ذلك نقيب الأطباء وأسقط وزير الصحة الذى ترشح أمامه... تذكرت وصايا الدكتور عاطف غيث العشر حيث قال فى شجاعة «يا سيادة الرئيس إذا أردت لهذا البلد خيرًا وديموقراطية حقيقية فعليك أن تترك الحزب الوطنى لكوادره لكى يتفاعلوا مع الشارع ولن يولد حزب حقيقى إلا إذا جلس فى مقاعد المعارضة وقتها سيعرف الحزب قيمة ثقة الشعب»، وعقب اللقاء هذه الوصايا العشر أن تمت أسخن مناقشة عرفتها الحياة السياسية عقلانية مسئولة فى عهد السادات ورد الرئيس وقتها أنه لايعنينى أن أحظى بمنصب رئيس الجمهورية أو رئيس حزب لكن يعنينى بالدرجة الأولى أن أكون كبير العائلة المصرية، وطبعًا هذه الأطروحة أغضبت الكثير خاصة (قوى السيادة الاجتماعية فى مصر)، فهذه الذكريات استعدتها وأنا أتابع حرارة المناقشة العلمية التى لاتعرف الالتواء، وما قام به الأساتذة الأفاضل من طرح أسئلة تدور فى أذهان المجتمع المصرى حول هشاشة الأحزاب، وما يطلق عليه الأحزاب الكرتونية أو المستأنسة أو المنبطحة، وقضية البرامج التى تعتمد على المزايدات وطريقة اختيار الأعضاء واختباراتهم والأمور التنظيمية، وهل هناك أحزاب الموقف أو اللحظة التاريخية أو الأحزاب العقائدية وفصائلها، وهل احتكار الإيديولوجيات مقصورة فقط على أحزاب اليسار والفرق بين الحزب والجماعات والارتباط التنظيمى والتحديات التى تواجه الأحزاب، وهل هناك أحزاب عبارة عن صحيفة، وهل الأحزاب استنساخ لتجارب سابقة.
دخلت المناقشة منعطفات خطيرة حول ظاهرة (التفكك الحزبي) وتقييم النماذج المصرية وظاهرة تركيز الأحزاب فى الدول الكبرى مثل المحافظين والعمال فى بريطانيا أو الحزبان الديموقراطى والجمهورى فى أمريكا وغيرها من نماذج الأحزاب فى الدول النامية، وارتفعت الحرارة تماما إلى الذروة حين تعرضت المناقشة لتجربة الحزب الواحد فى مصر، ولماذا لم ينفذ الرئيس جمال عبدالناصر تجربة الحزبين التى طرحها تحت قبة البرلمان وما يسمى بالتنظيم الطليعى وأزمة الكوادر وانعدام وجود قضايا حقيقية تحرك الشارع المصري، وهل إنشاء الأحزاب ارتبط بقضية الاحتلال، وتناولت المناقشة قضية تفسير (المنابر)، وهل يمكن تقسيم الأحزاب إلى ثلاثة اتجاهات ولماذا لا تفتح الأحزاب أبوابها للخبراء والمثقفين والمرأة والشباب وتحبس نفسها فى سجن الأمس وأفكار الأمس وابتعادها حاليًا عن قضية التنمية والعمل على توفير أمن المواطن واستقراره وتجربة (وزارة الظل) ومدى إمكانية نجاحها فى مصر، وكان هناك اتفاق عام أن الأحزاب والتنظيمات التى تسعى للهدم لاتكسب ثقة الشعب لأن آمال الجماهير فى أن ترى أحزابها تبنى ولاتهدم، وإن المعارك السياسية لابد وأن ترتفع إلى مستوى طموح وهناك فارق بين الأقلية والمعارضة الثابتة، وأهم القضايا التعليم والمرأة والشباب ولاتتحول المعارك إلى معارك قبلية يستعرض كل حزب عضلاته على حساب الشعب ووقته لأن وقت الأمة له ثمن.... وقبل ذلك فإن الحزب هو بيت الديموقراطية وحصن الحريات المسئولة لأنه إذا حظى بثقة الشعب سيتولى الحكم وإدارته، وهذا يحتاج إلى كوادر مدربة تفهم معني الإيثار والمشاركة الفعالة لأى حزب تتحقق سواء كان الحزب داخل الحكم أو خارجه، وهو ضمان استمراره وتدفق أفكاره، ودارت مناقشات حول عيوب الحزب الواحد ومناقشة كاملة للأحزاب العقائدية فى المنطقة العربية مثل حزب البعث، وهى تجربة يستحق التوقف عندها طويلًا مثل مسيرة الحزب الوطنى القديم برئاسة مصطفى كامل، وحزب الوفد الذى بدأ ثورة ثم حركة ثم انتفاضة ثم ثورة تحولت لحزب اختارت رموزها وأًصبح علامة على طريق الديموقراطية.
عالج الباحث ظاهرة هشاشة الأحزاب وأمراضها التنظيمية وقد فات على الأحزاب كلها المشاركة بالحضور فى هذا اليوم لكى يستفيدوا من آراء الأساتذة ويرصدوا ثبات الباحث الشاب الذى عكست ردوده علم غزير وخبرة.
بعد أن وقفنا جميعًا أثناء تلاوة قرار منحه هذه الدرجة العلمية تولدت قناعة داخلنا أننا أمام باحث واعد يتعامل بآليات الغد ويسد فجوة خطيرة فى مسيرة التطور الديموقراطى ويحدد أسباب التصدع فى الحياة السياسية بالأساليب التى تهدف لتحريك القناعات والقيم ونشر الثقافة والتعددية وحقوق الإنسان والحريات المنضبطة بحيث يحثث أهداف المعادلة الصعبة للإرتقاء والانتعاش فإن الأحزاب العظيمة مثل الأنهار العظيمة تجدد مياهها ولا تغير مسارها.