تتابع فرجينيا تيلى الأكاديمية الأمريكية فى كتاب «حل الدولة الواحدة: انفراجة للسلام فى المسار الإسرائيلى الفلسطينى المغلق»، على المواجهة الموضوعية فى التعامل مع حقوق كل طرف من أطراف الصراع الفلسطينى - الإسرائيلى، والذى نقله إلى العربية ربيع وهبة، والصادر مؤخرا عن المركز القومى للترجمة بقولها:
«هل يمكن لشكل الدولة الجديد أن يظل يهوديًا؛ بمعنى تعزيز هيمنة القومية اليهودية على الصعيد السياسى ودوامها؟ أم أن القومية اليهودية – كما يحاج البعض – قد عاشت زمنها وحان وقت التخلى عنها؟ أم أنه يمكن إقرار حالة توافقية ما، يمكن من خلالها المحافظة على الوطن القومى اليهودى بطريقة أو بأخرى، فى إطار نظام ديمقراطى مدنى حقيقى، أشبه بتلك الأنظمة الموجودة فى دول أوروبا الغربية، التى لا تميز، على الأقل رسميًا، بين مواطنيها بناء على العرق أو الدين؟
فالخيار الأول المتعلق بمصير الدولة اليهودية، يتم الدفاع عنه وفق المفاهيم التى ظل التفكير الصهيونى السائد يحتفى بها على مدى قرن كامل، ولكن هذا التفكير نفسه ينذر بمتاعب معوقة تلوح فى الطريق. فإذا ظلت إسرائيل ديمقراطية، سيصبح السكان العرب أغلبية يمكن لنفوذها الانتخابى أن يكون كافيًا لتغيير القوانين المؤسسة لإسرائيل، والتى تضمن فى الوقت الحالى منزلة متميزة لليهود والأمة اليهودية. وهنا ينظر كثير من الصهاينة إلى مستقبل كهذا برعب حقيقى، ويطلقون تنبؤات سوداوية تصل فى أذهان العض منهم لحدود المعاناة اليهودية، وربما حتى طرد اليهود، ولكن إذا قامت إسرائيل – فى ظل هذا التوجس – بحرمان الفلسطينيين من حقهم فى التصويت، مستبعدة بذلك ما يزيد على نصف سكان الدولة من حقوقهم السياسية؛ فإنها ستصبح وقتئذ نموذجًا مصغرًا من جنوب أفريقيا.
فى المقابل فإن الخيار الثانى الذى يتمثل فى تحويل إسرائيل إلى دولة ديمقراطية علمانية ومحايدة عرقيًا، يبدو مسارًا واضحًا بالنسبة لعدد قليل من المفكرين الليبراليين، ولكنه لا يستهوى معظم الناس، إذ لا يرونه حلًا واعدًا أكثر من غيره، فكثير من اليهود إن لم يكن أغلبهم، سيعترضون على فقدان الرسالة الروحانية والقومية التى مثلتها إسرائيل، على الرغم من تزايد المشاعر المختلطة حول إيجابية وسلبية أثر إسرائيل على يهود العالم، حتى بالنسبة لكثير من اليهود العلمانيين الذين يعيشون حاليًا بارتياح فى الشتات، فإن فكرة فقدان القاعدة السيكولوجية لقدسية يهودية، ضد هجوم معادِ محتمل للسامية، تضرب على وتر عميق من الخوف بداخلهم.
إن التخلى عن الحلم الصهيونى المتمثل فى تأمين وطن قومى يهودى فى الأرض المقدسة، سيسبب صدمة وإحباطًا لمؤيدى إسرائيل على مستوى العالم، حتى ولو بأسباب مختلفة غير أن حل الدولة الواحدة لا يمكن له أن يتبدد، على الرغم من هذه العقبات السائدة والقوية التى تعترض طريقه، حيث لا يتبقى أى خيار آخر؛ ذلك أن مسألة قيام دولة فلسطينية حقيقية على أرض الواقع، أصبحت فى عداد المستحيل.
فالمستوطنات اليهودية فى الأراضى المحتلة، يتم تحليلها على نحو روتينى؛ كونها تقع فى أربع مناطق احتلتها إسرائيل فى حرب الأيام الستة عام ١٩٦٧، وهى: «مرتفعات الجولان، القدس الشرقية، الضفة الغربية، وقطاع غزة»، وفى أثناء تحرير هذا الكتاب، كانت هذه الأراضى تحتوى على ٢٣٠ مستوطنة، وحوالى أربعمائة ألف مستوطن يهودى (حوالى ١٠٪ من سكان إسرائيل). وقد قامت إسرائيل بضم كل من القدس الشرقية ومرتفعات الجولان، واعتبرتهما جزءًا من أرض إسرائيل، أو منطقة سيادة إسرائيلية. ولأن إسرائيل استولت على هذه الأراضى بالقوة فى حرب ١٩٦٧، فإن الدبلوماسية الدولية، تصنف الأماكن الأربعة ضمن نطاق «الأرض المحتلة» التى لا يزال وضعها النهائى قيد التحديد، ومن المهم الإشارة هنا إلى أن كلًا من المناطق الأربعة لها وضع سياسى مختلف، وتمثل بالتالى تحديات مختلفة أمام أى انسحاب، ويثير إصدار إسرائيل على عدم تقسيم مدينة القدس، فى الذهن عددًا من المراجع التوراتية المتمركزة على الذاكرة اليهودية الجماعية التاريخية – الأسطورية. بيد أن مطلب عدم التقسيم، موجه أيضًا كرسالة استراتيجية نحو مسيحى الغرب، وبخاصة نحو مسيحى الولايات المتحدة الأصوليين اليمينيين، الذين يعتمد دعمهم السياسى الحيوى لإسرائيل، على رؤى توراتية أقل تعقيدًا، تتعلق بـ «الأرض المقدسة»، بل يعتمد حتى على أفكار ألفية؛ مؤداها أن نشوء إسرائيل هو العلامة على عودة المسيح الوشيكة، ولكن مع استمرار السياسة الإسرائيلية فى توسيع حدود القدس على نحو هائل، فإن نغمة «القدس لن تقسم أبدًا بعد الآن»، تصبح رسالة الغرض منها الآن تكثيف المطالب الإسرائيلية على منطقة جيو استراتيجية أكبر حجمًا بكثير من المدينة التاريخية القديمة.
لقد تم تعزيز الضم أحادى الجانب للقدس من قبل إسرائيل بحلقة من المستوطنات اليهودية الحضرية التى تم تشييدها حول حدود المدنية المتوسعة، حصن سكانى يوفر حاجزًا دفاعيًا، ويصادر على إمكان التفاوض حول عودة السيطرة العربية، وعلى الجانب الآخر فإن المزاوجة الإسرائيلية الماهرة بين الخطاب الإيديولوجى والهندسة الديموغرافية والمدنية، وبين الاستراتيجية العسكرية، مستمرة، وتكللت بالنجاح فى إطار مثل هذه العملية من التكثيف الحضرى.. وللحديث بقية.