تكلمت مختلف الأوساط بمصر عن فيديو متداول لمذيعة جافة تدير حوارًا مع متهمين بالتهريب من جمرك بورسعيد، بينهم متهمون يودعون الطفولة وعلى أبواب مرحلة الشباب، المذيعة الجافة، والتى تقمصت دور رئيس المباحث وحامية حمى المال العام نالت استنكارا واسعا ومستحقا بسبب التدنى الشديد فى المهنية الإعلامية، وكأن ريهام سعيد صارت مدرسة إعلامية تعتمد الاستفزاز وامتلاك اليقين والتعالي.
مذيعة بورسعيد عوقبت برفض المتابعين لأسلوبها، وعلى الجانب الآخر سادت موجة تعاطف كبيرة مع المتهمين، حتى أن رجل الأعمال نجيب ساويرس أوفد محاميًا لإنهاء القضية بالتصالح مع الجمارك ووعد بفرص عمل لهؤلاء الصبية، كل هذا جميل ومُقدر بل ومحترم، وهو ما كنا ننادى به دائمًا بضرورة التفات رجال الأعمال إلى دورهم المجتمعى وعدم انفصالهم عن الواقع المحيط بهم، وكنا ترجمنا ذلك قبل سنوات فى عبارة «حقوق لا عطايا» فالمجتمع الذى أعطى رجال الأعمال الفرصة تلو الأخرى لكى يتحقق نجاحهم له حق تحصيل تلك الضريبة المعروفة بالدور المجتمعى، سواء كان بالمساهمة فى توصيل مياه الشرب لقرية أو المساعدة فى رصف طريق أو توريد أجهزة طبية لمراكز صحية.
مئات المجالات يمكن لرجال الأعمال التحرك والعمل من خلالها بما يعود بالنفع على مختلف الأطراف، وفى قضية التهريب من بورسعيد ثمة ملاحظة صغيرة نرصدها وهى أن العمل ضرورة بالفعل، ولكن فى حالتنا هذه يصبح التعليم أكثر ضرورة من ذلك، فالأقرب للمنطق سواء فى تجربة ساويرس هذه أو غيره تأسيس مراكز تدريب مهنى ملحقة على مصانع رجال الأعمال، ومن أول شروط الالتحاق بها معرفة المتدرب بالقراءة والكتابة ومحو أميته.
فليس من المعقول تحديد مصير الشاب الذى حصل على تلك المنحة بأن يعيش عمره كله دون صنعة تغنيه عن السؤال، وفى فكرة معهد التدريب هذه حلًا لتلاسن بدأ من بعض المتابعين، حيث أشاروا إلى أنهم اعترضوا على أسلوب المذيعة بسبب سن المتهمين الذى لم يغادر الطفولة، فكيف يمكن قبول عمالة الأطفال كحل لمثل تلك المشكلة، معهد التدريب قادر على حل تلك الثغرة العمرية ليقدمهم إلى سوق العمل عند بلوغهم السن القانونية.
أما حكاية رد الفتى على المذيعة بتبريره للتهريب ومقارنة تهمته مع جرائم لصوص الملايين وإعجاب كثير من الناس بهذا الموقف من الفتى، فاسمحوا لى أن أقول بأن هذا الإعجاب ليس فى محله على الإطلاق، لأن مثل هذا المنطق أراه بذرة خبيثة لو شجعناها سوف تنمو وسيكون أول المتضررين هم هؤلاء المعجبون، ولنكن أكثر شجاعة مع أنفسنا فى تقييم المواقف، مجموعة المهربين الصغار كاذبة فى سبب مغادرتهم لقريتهم، لأن من أراد العمل لابد وأن يجده فى محيطه، ولكن الاستسهال والاستذكاء بل والاستعباط هو من يؤسس لتلك التجارب المرفوضة.
ذلك الرفض يعلنه المعجبون أنفسهم الذين صفقوا لرد الفتى، ونسمع رفضهم هذا عندما يتصادف لقاؤهم مع من يشبهون مجموعة الصغار للتهريب فى طرقات أخرى، نسمعهم يرفضون العشوائية والموتوسيكلات الصينى والضجيج والتحرش وخطف الحقائب، لذلك لابد من استقامة الموقف، التعليم قبل العمل، التهذيب قبل الشجاعة، التفكير قبل الحماسة، التضامن المشروط الكاشف لحل أوسع، كما نقول للجمارك المصرية كفى، محلات المهربين الكبار أمام أعينكم فى القنطرة غرب، شبكات التهريب والعصابات المنظمة معروفة وتضم موظفين بالجمارك وأفراد شرطة وتجارا، كفى نزيف للمال العام.
وهل أزيدكم من الشعر بيتا؟ لم يكتف بعض تجار القنطرة بتهريب البضائع من بورسعيد، ولكن وصل الحال بالبعض إلى استيراد البرشام المخدر من الصين داخل حاويات الملابس التى تصل ميناء بورسعيد ليتم تهريبها بمعرفة الجميع إلى مختلف محافظات مصر، هذا ليس أكل عيش، هذا تخريب ممنهج وصار من الضرورى بل الضرورى جدًا فتح ملف بورسعيد نفسها كمدينة وميناء، وكذلك مطاردة الدمامل المقيمة فى «القنطرة غرب» من تجار جاءوا من بعيد قبل عصابة أطفال التهريب ليتحولوا إلى بارونات تعرفهم الدولة جيدًا.
على كل حال شكرًا نجيب ساويرس، ساعدتنا فى فتح هذا الملف الشائك.