مقابلة ثرية وجلسة فنية أوكد أنها نادرة، تلك التى شاهدتُها عبر محطة «ماسبيرو» مساء الجمعة الماضية، أدارتها الإعلامية الراحلة سلوى حجازى، إعداد الكاتب أنيس منصور وإخراج سعيد عيادة، فى البرنامج المُستعاد وباللونين الأبيض والأسود «أهلا وسهلا»، الضيوف السيدة فيروز وشقيقتها هدى، والأخوين عاصى ومنصورالرحبانى، الجميع فى أول زيارة لمصر لمشروع مسرحية غنائية مشتركة مع الملحن محمد عبدالوهاب، كان مركز الحوار مع الأخوين رحبانى، فيما صرحت لنا سلوى كمشاهدين ولحضور الاستديو أن فيروز لا تحب التحدث كثيرا، وقد أعلمتها بتلك الملاحظة قبل الولوج لتسجيل الحلقة، فيروز الحب تشيع بسمتها فى إلتفاتة لبوح سلوى عنها.
لقاء ماسبيرو بالسيدة فيروز ذكرنى بمشاركتى احتفاءً بيوم ميلادها، وقد أقامته محطة مسموعة لبنانية (على موجة FM) جمع نخبة من مُحبى وعشاق المُحتفى بها من جميع أقطار الوطن العربى، ليرسلوا عبر مُداخلاتهم تحاياهم ومباركاتهم لها، وهى الحلقة التى ستُقدم كهدية العام من المحطة للسيدة فيروز، كُنت الضيفة الليبية، وقد خُيرت فى شكل التحية التى سأقدمها، خمنت أن تهنئتى المتواضعة ومديحى لصوتها ومدرستها الغنائية المميزة فقط ستكون تكرارا لما سيفعله الضيوف من العُشاق العرب، لذلك كان خيارى أن أُشير بإلمامة مُلخصة تناسب الوقت الممنوح عن دور السيدة والأخوين رحبانى فى توظيف وإحياء التراث الشعبى اللبنانى (الفلكلور الشامى عموما) فتجربة فيروز الغنائية (وسأعنى النص المُستقى من بيئته واللحن بالطبع) حملت إخلاصا للتراث من خلال تقديمه بطريقة تجمع بين الحفاظ على أصالته كنص، نموذجها مثلا غناء «الهدهده» الخاص بالأطفال: «يلا تنام يالا تنام لذبحلا جوز الحمام.. طير يا حمام لا تصدق بضحك ع ريما تتنام»، وبين التطوير اللحنى المُعزز والمُستفيد من إمكانات صوتها الحانى الشجى، وفى مجال التوظيف التراثى، أعتقد أنه اتخذ ثلاثة مناحٍ، أولها: استحضار فنون الأداء الشعبية كالموال والميجانا والعتابا والروزانا… كاستهلال يؤدى وظيفته فى الأغنية، وليس دخيلا مصطنعا، وثانيها: التراكيب اللحنية المُستحدثة ذات المرجعية التراثية المُتعارف عليها شعبيا، وفى ظنى أنه نوع من التوظيف يشابه ما مرت به الأغنية الليبية أيضا، إذ يتم الإعلان عن ذلك بالقول إنه لحن شعبى متوارث جرى إحياؤه وتجديده، ثالثها: إدخال الصيغ اللغوية المتداولة شعبيا كمقاطع مُضافة إلى النص المُؤلف حديثا، وهناك أكثر من إشارة لذلك فى بعض الدراسات التى عنت بالمدرسة الرحبانية، وما أكده بعض شعراء الأغنية الذين غنت لهم السيدة فيروز.
كما يُحسب لتجربتها التى كانت مُفارقة فى مضمونها بما لم يجارى تاريخ الأغنية العربية فى مرحلة من مراحلها التى انشغلت بشقاء الحب وعذاباته بين الطرفين، فكلاهما يشكو غيابا وهجرا وغيرة مما أظهر تكرارا بدا فجًا وساذجًا مُبالغا فيه فى بعضٍ مما استغرقته الفكرة والصياغة اللحنية آنذاك، وكانت أعمال فيروز (الغنائية والمسرحية) تستحضر مناخات الأماكن الشعبية الحميمة وأُناسها: الضيعة، والطاحونة، والقرية، والنبع، وتفاصيل حياة وليال: سهر الرعاة، والمزارعين، والصيادين، والبياعين،... وبالإمكان إضافة أن صوت فيروز القوى المُندفع ( فى بعض حالاتها التى يتطلبها السياق الغنائى) كان ناقلا وواصفا بحيويته لسلوك وقيم مجتمع يرى فى النخوة والعزة والشهامة، والشرف، وحب الوطن والدفاع عنه، والتضحية والتمسك بكل ما هو نبيل مسوغا لحياة حرة تنأى عن التزلف والابتذال، وقد قدمت عبر الكلمات التراثية التى قاربها صوتها واصفا مشهدا، أو حدوتة درامية ناقلة للسامع أجواء عايشها أهلها لعلها اختفت فى يومنا هذا، لتصبح بعد مرور عقود من الزمن تسجيلا فنيا توثيقيا لجماليات رصدت جغرافيا المكان، وعنصره الإنسانى، وكذلك المهن والوظائف الحياتية اليومية ومُستعملاتها التى تُشابه كثيرا ملامح وصفات بلاد العرب بأجمعها، فأضحت «فيروزنا»، بمدرستها موحدة وجامعة فى ذلك، ما عجز عنه صناع سلطتنا وقراراتنا!.
وأضفتُ فى المُداخلة المتواضعة أن فيروز وشذوها مُفتتح ما تطرب له أذنى فى أول صباحاتى، ولها فى ليبيا عشاق من كل الأعمار والميول الفنية، كتب عنها شعراء وأدباء، والمفكر الليبى الصادق النيهوم، له مقال عنها: نحن والقمر جيران، كانت مطربة المثقفين، مقاهٍ فى ليبيا تستقبل روادها صباحا بأغانيها، فيروز تحولت بحب ملايين العرب لصوتها، وبما حملتهُ -فى مضمون كلماتها- من قضايا إنسانية إلى حالة فنية متفردة، نسيج وحدها، وهى من صنعت تاريخها بمثابرة مُخلصة وبجهد «الرحابنة» وشعراء تلك المرحلة.