قبل أن أشرع في قص عليكم الحكاية الثانية من حواديت عيال كبرت، لي طلب لديكم وهو أن يكون هناك بيننا صراحة، فإذا أصابكم الملل أخبروني ولن أغضب منكم، كما أنني لن أتوقف عن الكتابة، فأنا لا أستطيع حتى وإن أصبحت القارئ الوحيد لنفسي.. لنذهب الآن
خرجت من المنزل وأنا أجهش بالبكاء بعد «علقة الخرطوم»، اتجهت إلى المسجد وكأن المشايخ كانوا يعرفون ردة فعل أبي حينما أزلت «القزع»، لم يسألوني عما حدث، فقط قالوا: «معلش يا شيخ تامر»، نسيت «العلقة» وتعلق ذهني بكلمة «شيخ» فقد لاقت في نفسي استحسانا، مع أنه كان لي لزمة حينما يقولها لي أحد أرددها وهي: «زعمتني بشيخ ولست بشيخ إنما الشيخ من يدب دبيبا، لكني قلت لو كنت بت شيخا في علقة واحدة.. فلربما أكون إماما للمسجد بعلقتين من والدي».
«أرى قارئا يجلس في مدرجات الدرجة الثالثة يقول أنا مش فاهم حاجة.. وده بقى لازم يرجع للحدوتة الأولى عشان يتابع معانا من الأول وخلي بالك دول 1000 حدوتة يعني لو عديتك واحدة أنا مش مسئول.. فيه واحد تاني في التالتة شمال بيقول إنت تقصد تهاجم الجماعات الإسلامية.. لا والله يا شيخ أنا بحكي اللي حصل واستنى شوية قبل الحكم.. اقرا كل الحكاية سأمر بكل الاتجاهات فجميعهم تركوا في نفسي شيئا لأكون كما أنا الآن.. الثالث بقى قاعد يقيم المقال.. يا خال أنا عفيتك من ده كله وسميتها حدوتة☻☻☻».
قال لنا أحد الإخوة: «نحن صائمون وسنفطر سويا اليوم، ثم نصلي العشاء وهناك حديث، بعدها سنصلي التهجد، وسيؤمنا فيها أحد الشباب، وليكن أخيكم أحمد»، أخونا هذا الذي قصده الشيخ، كان فكاهيا إلى الحد الذي تضحك فيه لمجرد رؤيته، ناهيك عن أن علامة الصلاة ظهرت في جبينه ما بين عشية وضحاها، ولن أخبرك عن السر، لأنني ظللت شهورا حتى أعرفه، ولست أقل من «حسن عابدين» الذي عاش ومات ولم يخبر المصريين بسر «شويبس»، واصل الشيخ حديثه لأحمد: «المهم إنك هتصلي بكبار السور البقرة أو آل عمران»، أكلنا الفتة واللحمة حتى بتنا لا نستطيع التحرك من أماكننا، أسقطنا من ذاكرتنا حديث «الثلاثة أثلاث» أمام رائحة الشوربة، وقمنا على مضض لنصطف وراء أحمد، الذي توجه للقبلة، ولدى قوله الله أكبر، همس أحد زملائي في أذني وقال لي: «إحنا هنصلي ركعتين بس.. عشان في فرح فيه رقاصة.. ضحكت بصوت عالي وضحك زميلي.. فسلم أحمد يمينا ويسارا والتفت مبتسما.. إحنا هنهزر من أولها»، عنفنا أحد المشايخ وقال لنا: «من أضحك مصليا أبكى نبيا، فمال زميلي على أذني مرة أخرى وقال لي: أي نبي يعني»؟ مسكت نفسي وعاد أحمد ليكبر.. اغمضت عيني وقرأ أحمد الفاتحة ثم صمت قليلا ونحن من خلفه ننتظر أن يفتتح بـ«البقرة أو آل عمران»، وإذ به بعد البسلمة ينطق «إنا أعطيناك الكوثر».. لم نتمالك أنفسنا.. حاولنا كتم الضحك لكن انفجرنا جميعا حتى هو .. أكثر من عشر دقائق ونحن في ضحك متواصل حتى المشايخ، قطع أحدهم ضحكنا.. وهو يقول يا أحمد أنا قلت لك طوال السور.. نظرنا إلى أحمد لنرى رده وعيوننا قد دمعت من الضحك.. وإذ به يقول: «يا عم الشيخ.. الفتة ركبت على قلبي.. حبيت ألين حنجرتي بسور قصيرة الأول»، ضحكنا مرة أخرى حتى نزل الدم من أنف أحدنا، شرع أحد المشايخ ليصلي بنا، وكنا أستئذناه لنجدد وضوئنا، كنا أربعة في دورة المياه، أنا وأحمد وحسين ومحمد، اتفقنا على أن نخرج لنشاهد الراقصة ونخبر الشيخ أن حسين تعب فجأة واصطحبناه للبيت، وضعنا الطواقي في جيوب الجلبيات، وذهبنا إلى الفرح.
كانت أول مرة لنا نشاهد فيها راقصة «لايف».. لحم غير اللحم الذي عهدناه.. تقدمنا أكثر فأكثر حتى وقفنا أمام المسرح، كنا نتوارى خجلا، لكنا حينما وجدنا رجلا من القرية عالقا فوق عمود كهربائي بجوار المسرح.. زال خجلنا، كان حدثا غريبا على القرية فقد كانت المرة الأولى، زحام شديد حول هذا الكائن الغريب.. عيون مفتوحة من الرجال والنساء مع كل حركة.. يسب الرجال نسائهم ويتباكون على حالهم.. ويرددون: «جتنا نيلة في حظنا الهباب»، على الجانب الآخر يتأففن النساء ويرددن: «فيها إيه زيادة المتلومة دي غير حبة الدوكو وشوية المياعة».. كان صاحبنا اللي على العمود بين حين وآخر يمد يده بعصا يغرزها في جسم الرقصة فتغضب ونضحك جميعا.. استمر الحال حتى جلست الراقصة على رجل العريس فغضبت العروس وتشاجرا وصمم أخيها أن تنزل الراقصة.. ومنذ تلك اللحظة صار معروفا في أقطار مصر مقولة «الرقاصة لازم تنزل» التي تداولها الناس فيما بعد لكن «السبكي» جاء فيما بعد ليكسرها.. وجاءت «صافيناز» لتنهي تماما على تلك المقولة.
خرجنا نستغفر الله على هذا الذنب.. ونحن نقول: «استغفر الله العظيم شفت يا بني رجليها كانت عاملة إزاي الله يلعنها ده مهلبية.. لا حول ولا قوة إلا بالله ده بتتلوى ولا التعبان».. ذهبت أنا وحسين إلى منزلنا الذي كان عبارة عن حجرات بالطوب اللبن عدا حجرة على الشارع كانت معدة للضيوف، قررنا أنا ننام فيها حتى صلاة الفجر.. وبعد وصلة من الحديث عما دار في اليوم.. وقراءة بعض أشعاري من كشكول كنت أخفيه.. غفلت أعيننا.. وإذ بي أسمع دبدبة أرجل وكأن القرية كلها خرجت تجري.. هرعت إلى الشباك لاستكشف ما يجري.. لم أرى شئ سوى أرجل سوداء بأحذية سوداء تنزل من سلم سيارة عالية.. أرجل لا حصر لها تصطف أمام منزل العمدة.. طلت من رأسي حكايات «أمنا الغولة.. والجنية.. والنداهة وأم بـ... حديد» التي كانت جدتي تحكيها لي لكي لا ألعب في الشارع ليلا، أيقظت حسين.. فهرع إلى الشباك.. ثم قال في فزع ده البوليس.. أنا: بوليس إيه يا حسين.. جدتي لم تحكي لي هذه الحكاية.. حتى هذه اللحظة لم أكن أعرف شيئا عن البوليس غير ما تجمع في ذهني من فيلم يوم الخميس في التلفاز يوم الخميس الذي أشاهده.. وكنت أرى أن «الشاويش عطيه» رجلا طيبا بالرغم من تجهمه.. وتعاطفت معه جدا حينما ساعد «إسماعين يس» من الزواج بـ«زهرة العلا».. كررت الاستننكار: بوليس إيه يا حسين، أتتني إجابته: «تقريبا المشايخ أبلغوا عنا الشرطة لأننا تركنا الصلاة وذهبنا لمشاهدة الرقاصة».. فوضعت ذيل الجلبية في فمي وفتحت الباب وقلت له اجري يا حسين... اجري يا حسين.
ملحوظة :
هذه الحدوتة حقيقية وليست من وحي الخيال، غير أنني فقط عدلت الأسماء لأن الأشخاص الحقيقين منهم من بات طبيبا ومهندسا ومدرسا وربما لم يودوا أن يتم ذكرهم وإن كان السرد يبهجهم.. استنوني الأسبوع الجاي نكمل الحواديت و«علبة سجاير».