حكم فرنسا حكمًا مطلقًا حوالي نصف قرن، فصعد بها من دولة متخلفة في أوروبا، إلى قمة النفوذ في السياسة والأدب والفن في العالم كله، فأطلقوا عليه لقب (الملك الشمس).. إنه لويس الرابع عشر.
لقد أغمض الفرنسيون أعيونهم عن الكثير من أفعاله، أغمضوها عن يده الحديدية التي حكم بها البلاد، دون برلمان، كما كان يحكم بوزارة شكلية لا ترد له رغبة، وتتخذ كل قراراتها لتعزيز نفوذه.
وسكت الفرنسيون عن علاقاته النسائية، التي فاحت روائحها في كل أنحاء فرنسا، كما سكتوا عن زيجاته الكثيرة، العلنية والسرية، ومخالفاته لشريعتهم الرسمية وتقاليد ملوكهم الموروثة.
فإذا تجاسرت منطقة من مناطق فرنسا على المطالبة بدولة عصرية على غرار الدولة البريطانية، قال قولته المشهورة: (الدولة أنا.. وأنا الدولة).
قصة لويس وحب لويز دي لا فاليير
وشاء القدر أن تدخل حياته امرأة، وتتسبب له بفضيحة مدوية كادت أن تهز عرشه..!! فضيحة لا يزال صداها يتردد في صفحات التاريخ، ولايزال المؤرخون حائرين في تفسيرها حتى اليوم! المرأة اسمها (لويز دي لا فاليير).. قدمتها له الآنسة: هنريت الانجليزية، وهي شقيقة زوجته.
وهذا هو السؤال الذي حيّر المؤرخين: كيف تُقدم شقيقة زوجة الملك على تقديم فتاة جميلة، وأنيقة، وفي عمر الزهور، إلى زوج شقيقتها، ليضمها إلى قائمة عشيقاته، ثم لتغدو بعد ذلك أحب النساء إليه، بعد أن أصابه الجنون بحبها والتعلق بها؟! كتبت هنريت في مذكراتها: إن دوافعها من وراء ذلك كانت ذات شقين:
الشق الأول: هو إخراج أختها من دائرة بغض الملك لويس الرابع عشر، إذ كان يكرهها، ولا يدع فرصة تمر دون أن يسخر منها وكثيرًا ما كان يصب عليها غضبه لأتفه الأسباب، ولم يكن ليتورع عن توجيه الإهانات لها أمام الناس، مع أنها كانت كالزهرة الرفافة، شديدة التدين، مخلصة لزوجها كل الإخلاص، ولكنه كان يبغضها.
الشق الثاني: كما كتبت هنريت في مذكراتها: أنها أرادت أن تنقذ نفسها من براثنه، فلويس كما هو معروف عنه صاحب مزاج غريب.. وهنريت عندما جاءت مع أختها لحضور حفلات الزفاف، لم يكن في نيتها البقاء في فرنسا، فبعد أن أمضت شهر الاحتفالات، قررت العودة إلى لندن، لكن سفير انجلترا طلب منها البقاء في باريس مع أختها الملكة، لأن ملامح فشل الزواج كانت تبدو واضحة منذ البداية.
فالملك لا يزور زوجته إلا في المناسبات الرسمية.. وإذا دخل جناحها لا يمكث فيه غير ساعة أو بعضها، وإذا أطال بقاءه، فلكي يطيل عذابها بكلماته القارصة، وألفاظه الجارحة.
فكان من رأي السفير ان تبقى هنريت مع شقيقتها لتخفف عنها مما تلاقيه.
ولما أظهر الملك لويس الرابع عشر، رغبته بعودة شقيقة زوجته إلى بلادها، لجأت هنريت إلى الحيل النسائية التي تتقنها المرأة بالغريزة، فأخذت تلاينه، وترضي غروره بالمديح والإطراء.. وكان لويس شابًا جميلًا، بل يكاد أن يكون أجمل ملك في أوروبا كلها.
ولا تنكر هنريت في مذكراتها، أنها حاولت إيقاعه في غرامها على أمل أن يغدو لها نفوذ عليه تستخدمه لصالح شقيقتها.. فكأنها بذلك تقوم بمقاومة الرذيلة، برذيلة أبشع منها..!! ومع هذا فلم تفلح في إيقاع لويس في غرامها ولكنه صار يطمئن إلىها، ويأتمن جانبها.. وصار اذا بلغ به الضيق، كثيرا ما يلجأ إلىها بهمومه لتسري عنه، وتخفف من ضيقه.
ولم يكن بينها وبينه علاقة غرامية كاملة، ولكن كان بينهما نوع من التفاهم، وهي تلتمس له الأعذار، فمن كان في سنه ووسامته وفتوته، وتهافت الحسان من كل حدب وصوب عليه، إلى جانب استسلام كل رجال الدولة بالعمل على تحقيق رغباته وفوق هذا وذاك، فهو يمتلك السلطة التي تدير الرؤوس، لكل هذه العوامل، فإنها تتعامل معه بحذر شديد، وتسايره، فأصبحت هي الصديقة الأثيرة لديه.
ولكن علاقتها به، ما حالت دون وقوعها في غرام شاب فرنسي، سعت إالى الزواج منه، في وقت سريع رغم اعتراضات لويس التي تعاملت معها بذكاء وحنكة.
لم يحب شقيقة زوجته إلا عندما تزوجت
ولما تزوجت، حدث تغيير عجيب في مزاج الملك الفرنسي، حيث أخذ يتحبب إلى شقيقة زوجته المتزوجة حديثًا، ويتابعها بغرامه إلى الحد الذي أعرب لها عن استعداده لتطليق شقيقتها، والزواج منها!! بعد أن يُرسل زوجها إلى معركة لا يعود منها.
لكن هنريت، أقنعته أن زواجًا كهذا سيجر عليه وعليها ويلات لا حد لها، فهو سيثير غضب البابا لخرقه نواميس الكنيسة، في زواج الأختين، كما سيثير غضب انجلترا بسبب طلاق أميرة تنتمي إلى الأسرة المالكة.
ورغم عدوله عن مشروع الزواج منها، بعد ان أقنعته بذلك، فقد ظل يتابعها بحبه واشعاره العاطفية، التي كانت الأفواه تتناقلها سرا في صالونات باريس.
وكان يمكن أن يدير النفوذ الجديد رأس شقيقة الملكة، ولكنها كانت تحب زوجها، ولم تجد حيلة من الحاح الملك إلا بأن تلقي في طريقه بمن تنسيه هيامه بها.. وكان ان وقع اختيارها على الآنسة لويز دي لا فاليير، وكانت في زيارة خارج باريس لقصر والد لويز ـ وهو من أشراف فرنسا، فشاهدتها في الحديقة مع فتى جميل، وسرعان ما اختلت الى امها، وحدثتها بما يجول في خاطرها، لكن الام تساءلت: ابنتي تذهب الى باريس؟! وماذا تعرف هذه الفتاة الرقيقة في أمور البلاط الملكي، وأصول التصرف في هذا المجتمع الذي تشرق فيه شمس مولانا الملك؟!!.. لكن هنريت تعهدت للأم بأن تجعل من ابنتها وصيفة لها، وستشرف بنفسها على تعليمها.. فقالت الام: لكن ابنتي على وشك الزواج من ذلك الفتى الذي ترينه معها في الحديقة!! وهو نجل الفيكونت (دي براجلون)، فقالت هنريت: ما احسب ان الفتى يعارض ان تكون خطيبته وصيفة لشقيقة ملكة فرنسا!! فاستسلمت الأم قائلة: لا أملك ان ارد رغبة لك يا صاحبة السمو.. ولكنني استحلفك بالله يا سيدتي، ان تصونيها، مما قد تتعرض له فتاة غرة، ووديعة، وجميلة مثلها من اغراءات في بلاط الملك. وتعهدت لها هنريت بالقول: ستكون كابنتي.. وسأحميها مما أحمي منه طفلتي الصغيرة.
وكانت هنريت، شقيقة ملكة فرنسا تضمر تمامًا عكس ما تعهدت به، اذ جعلت من لويز وصيفتها الخاصة، بالقرب منها، على أمل ان يراها الملك اذا جاء الى قصرها ليبثها غرامه كالعادة.. فيقع نظره على الشابة الخارقة الجمال، فيخر ساجدا أمام سحر روعتها.
ولكن لويس الرابع عشر حينما رأى الفتاة للمرة الأولى قال لهنريت: بحق السماء، لقد اسأت اختيار وصيفتك يا صاحبة السمو!! لكن هنريت تجيبه ممازحة اياه في مرح: لم لا تقول يا صاحب الجلالة، انها أجمل فتاة في فرنسا كلها.
فيقول: لا أنكر أنها رائعة.. ولكنها يجب ان تتعلم اشياء كثيرة، وبالفعل بدأت دروسها الأولى في الرقص، وكان لويس يفاجئها بحضوره اثناء التدريب، وبعد ان تكررت زياراته، واذا بكيوبيد يلعب لعبته المعروفة، وترسل لويزا سهام جمالها الرائع، ليخر لويس الرابع عشر صريع غرامها.
ومع ان الفتاة قاومت ملاحقته لها، وتودده المستمر، في حياء الفتاة الريفية، وتحججت للملك بأنها تحب فتاها، فما كان منه إلا أن استدعى الفتى، وجعل منه ياورًا خاصًا له، وكان يهدف إلى أن يسقطها من عين حبيبها.
وصار يكتب لها قصائد عاطفية مثيرة، والفتاة الريفية كانت تتأثر بتلك القصائد، وتظنها منابع صدق تبثها خلجات الملك العاشق لها والمغرم بجمالها والمحب لها الى درجة الجنون، وكانت تقف مشدوهة أمام ما يمطرها به من اشعار، ولا تدري كيف ترد عليه.. وأعربت مرة عن قلقها لهنريت التي وعدتها بأنها سوف تجد لها مخرجًا، وتنقذها من حيرتها.
دان جو يكتب قصائد حب لويس لمعشوته
ولجأت هنريت، إلى الشاعر المركيز دان جو، طالبة منه ان يسدي لها خدمة، فأجابها دون تردد: من أجلك يا صاحبة السمو أفعل كل شيء!! فصارحته بحاجتها الى استخدام ملكاته الشعرية، بحيث يكتب شعرا الى الملك لويس على لسان لويز دي لافاليير، لأن الملك يحبها، ويمطرها بقصائده، والمسكينة الفلاحة الريفية الساذجة، لا تعرف ان ترد على أشعاره.. مع انها بدأت تميل إلى مبادلته الحب، ولكنها لا تحسن التعبير عن ذلك.. والشعر الذي يرسل به إلىها يا ماركيز، يكاد يحرك الجماد.. ولست اطلب منك اكثر من ان تكتب قصائد عاطفية قصيرة، كأنها صادرة من لويز لترد به على شعره.
لكن الماركيز دان جو يصيح: كلا.. كلا.. يا صاحبة السمو.. فهذا مستحيل.. مستحيل.. مستحيل..!! فتتساءل هنريت: لماذا هذه الثورة بحق السماء؟!. ثم اني أتعهد لك بأن ما تكتبه عن لسانها للملك سيبقى سرًا مغلقًا بيننا!! وإذا شئت كتمناه أايضًا عن لويز نفسها فيزداد الماركيز دان جو اصرارًا، باستحالة إمكانية إقدامه على كتابة الشعر!!.
فتقول له: ولماذا هذه الاستحالة يا ماركيز؟! فتنتاب دان جو نوبة هيستيرية من الضحك، وهنريت تنظر إليه وهي في غاية الدهشة فيفاجئها بقوله: لأني.. لأني أنا الذي اكتب قصائد الملك التي يبعث بها الى الآنسة لويز!!؟ فلا تملك هنريت نفسها، فتضحك هي الأخرى في دهشة: إذًا أنت صاحب القصائد العاطفية التي ينسبها الملك إلى نفسه!؟.
فيرجوها الماركيز دان جو أن يبقى هذا سرا، فلو علم به الملك، لقطع رأسه!!.