مزيج من الهذيان المنظم، الجمال، السحر، العمق، الحكمة، السلاسة، الحقيقة، المحبة، الكراهية المستحقة، العرفان، ما يجب، ما لا يجب، السر، الجلاء، الاستقامة، الإقامة، الحُسن، القُبح، ما يُقبل، ما لا يُقبل، اليمين، اليسار، البين بين، الثلج، البَرد، الظل، الحرور، الإنسان، الطبيعة، الدواب، الهوام، الناس، الخاصة، العوام، الأخلاق أولاً، الشرف قبل كل شيء.. مزيج من كل هذا وأكثر هى الأمثال.. ليست أمثالنا نحن العرب فحسب بل أمثال أهل الدنيا كلها.
تُرى من أين انفتحت هذه السراديب المكتنزة بالحكمة وأسرار وخفايا الإنسان والوجود كله؟ من التجربة؟ من الأديان بكل روافدها ومعتقداتها؟ أم هى مزيج من كل ذلك؟ من أولئك الذين نظموا هذه الكلمات وأشبعوها بزيت الحكمة وبلاغة الراسخين فى العلم؟
أتخيل هؤلاء الذين صاغوا هذه الأمثال: معذبون حتى النخاع، طيبون جدًا ودمثون، مخدوعون للثمالة وماكرون، مشغولون بالعالم، يراقبون دورانه، وجريان حكمه على الناس والطبيعة، خبيرون بالمواقيت، أساتذة فى اليأس، ويعرفون كيف يطرزون الأمل، ويبددون الغيوم.
بائسون، مهجرون، مصابون بالنحس، والأوجاع. يخشون الحسد ويوبخون الأحقاد. يزعجهم الشتاء ويبشرون بمجيئه، يضربهم الصيف بالسيف، ويتغزلون فى نسائمه وحصاده. ينتظرون كل المواسم ولا تروق لهم. يحزنهم الموت المبكر، ولا يستسيغون العمر الطويل. ولديهم قائمة طويلة فى محبة الدنيا.. ومثلها فى الحذر منها.
بالرغم من أن أهمية الأمثال تتناقص فى الثقافات والكتابة، وبالرغم من كونها الأقل شيوعًا بين الناس لكن هذا لا يمنع ورودها على لسان أحدهم هنا أو هناك، كما لم يمنع أيضًا السياسيين أنفسهم من استخدام بعضها فى خطبهم.
ولكل من يعتقد أن الأمثال لم تعد حية فى المجتمعات فها هو قاموس «بنجوين» للأمثال يؤكد أثرها الممتد: فرغم أنه قد تم اعتزال الأمثال، فإنه لم يتم تزييفها.
الأمثال - وهى بالمناسبة زينة الحديث كما يقول المثل الفارسي - تفصح عن عدد من التشابهات فى التركيب وفى استخدام المحسنات البديعية، ويمكن التعرف عليها بسهولة نتيجة لشكلها المكثف وفى هذا ليس هناك أجمل ولا أشمل من «جمهرة الأمثال» للعسكري، و«المستقصى فى أمثال العرب» للزمخشري، و«مجمع الأمثال» للميدانى ومن الأخير نقرأ:
«إن المعاذير يشوبها الكذب»: (يحكى أن رجلاً اعتذر إلى إبراهيم النخعي. فقال إبراهيم: قد عذرتك غير معتذر إن المعاذير يشوبها الكذب).
«إن فى المعاريض لمندوحة عن الكذب»: (وهذا من كلام عمران بن حصين والمعاريض جمع المعراض. يقال عرفت ذلك فى معراض كلامه، أي، فى فحواه. والمندوحة.. السعة ويضرب لمن يحسب أنه مضطر إلى الكذب).
«إن الهوان للئيم مرأمة»: و(المرأمة هى الرأفة يعنى إذا أكرمت اللئيم استخف بك وإذا أهنته فكأنك أكرمته كما قال أبوالطيب المتنبي: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته/ وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا).
«إنما خدش الخدوش أنوش»: (الخدش هو الأثر وأنوش هو ابن شيث بن آدم عليهما السلام، أى أنه أول من كتب وأثر بالخط فى المكتوب. ويضرب فيما قدم عهده).
ليس العرب وحدهم الذين ضربوا الأمثال فلكل أمة وحضارة أمثالهما. أيا ما كانوا.. فقد تركوا لنا إرثًا ضخمًا وممتدًا من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب.. بعض هذا الإرث حاولت الباحثة الهولندية مينيكه شيبر جمعه فى مجلدها الصادر عن دار الشروق «النساء فى أمثال الشعوب.. إياك والزواج من كبيرة القدمين» والذى وضعت بين دفتيه كل ما استطاعت العثور عليه من أمثال تخص النساء.. النساء فقط. ومنه نعرف الصفات والطبائع الحميدة، وكذلك الذميمة فى المرأة. ونعرف أيضًا ما يميز كل امرأة عن أخرى، وما يحط من امرأة مقابل غيرها.
تخبرنا «شيبر» مثلا أن لقدم المرأة أهمية كبيرة فى ثقافة ومعتقدات أمم كثيرة. ففى كوبا: «من تكنس قدميها ستتزوج رجلاً عجوزًا». وفى مالاوى وموزمبيق يحذرون ضد خطر الأقدام الأنثوية الكبيرة: «إياك والزواج من امرأة ذات قدمين أكبر من قدميك.. فهى رفيقك الذكر».
وفى أهمية الجمال للمرأة يقول الناس فى أندونسيا: «المرأة الجميلة مثل الذهب الذى صنع حديثًا». وفى الهند: «عندما تجتمع ثلاث نساء، تظهر النجوم فى ضوء الصباح».
وفى إسبانيا: «الجبهة العريضة امرأة جميلة»، وفى أيرلندا: ثلاث صفات للمرأة: صدر عريض وخصر نحيل وظهر قصير»، وفى المغرب: «زين المرأة فى ضياها وزين العاتق فى حياها». ويقول الطاجيك: «الوجه الجميل مفتاح للأبواب المغلقة»، وفى البرتغال يقولون: «الجمال خطاب تعارف جيد»، والأفغان والناس فى باكستان واثقون أنه «حتى الإله يحب الجميلات».
الأمثال فى كتاب «شيبر» ساحة لعرض الجسد والروح، الجمال والدمامة، النقص والتوق للكمال، الذكاء والحمق، الجذب والنفور، الزوجة والمطلقة والأرملة، الابنة والأم والجدة، الفتنة والشيخوخة، الوهن والموت، العقم والخصوبة، الحمل والولادة والنفاس.
الكتاب يقدم لقارئه مادة تتقاطع عندها أفرع معرفية متعددة مثل علم الاجتماع، والفولكلور، والأدب الشعبى والدراسات المقارنة، كما تكمن فى صفحاته اللذة والبهجة العليا.