حكاية 6 جوارى فى حوزة «بدو وسمسار يهودى» بعد القبض عليهن فى منزل بـ«الجيزة»
«رئيس الشورى» يشترى 3 .. و«طبيب القصر» و«واصف باشا» يشتريان ثلاثًا
«الإنجليز» يقدمون «الباشوات»
للمحكمة عام 1894.. ردًا على مشاكسات «نواب الشورى»
في 4 أغسطس عام 1877، وقعت مصر على معاهدة حظر الإتجار في الرقيق، مع فترة سماح لمن لديه جواري لمدة 12 سنة للتصرف فيهن، واستمرت عمليات تجارة الرقيق في مصر، رغم صدور المعاهدة الثانية، لمنع الرقيق في بروكسل عام 1890، وإنشاء مصلحة لرعاية شئون الرقيق وبحث أحوالهن، يقودها ضابط إنجليزي يُدعى «شيفر بك»، وكانت من مهام المصلحة، ملاحقة تجار الرقيق، وتقديمهم للعدالة، وكانت تلك الجريمة عقوبتها حينئذ السجن لمدة خمس سنوات.
«الإنجليز» يقدمون «الباشوات» للمحكمة عام 1894.. ردًا على مشاكسات «نواب الشورى»
وفي الرابع من أغسطس عام ١٨٩٤، حطت في عزبة نصار، بجوار أهرامات الجيزة، قافلة مكونة من خمسة نخاسين، من البدو معهم ست من الجواري، وتوجهوا إلى منزل أحد معارفهم بالعزبة - ويُدعى عبدالرحمن نصار - لإخفاء الجواري الست، لحين العثور على زبون، ولجأ على مبروك - أحد النخاسين الخمسة - إلى صديق يهودي يدعى إبراهيم منير، صاحب ورشة لإصلاح العربات سابقًا، قبل أن يصبح عاطلًا عن العمل في أغلب الأحيان، وباح له بالسر، وطلب منه أمرين، الأول هو البحث عن مشترٍ، والثاني هو تدبير وسيلة لنقل الجواري سرًا إليه.
صحبه إبراهيم منير إلى يوسف اليَسَرجي، صاحب عربخانة بدرب المناصرة، فهو بحكم عمله يلتقي الأعيان، الذين يصلح لهم عرباتهم، وأجابهم الرجل بأنه يعرف بستانيًا في قصر على باشا شريف، رئيس مجلس شورى القوانين حينئذ، وبالفعل عرض البستاني الأمر على الباشا، فوافق وطلب عرض الجواري عليه بقصد المعاينة، وعاد البستاني لإبلاغ أفراد المجموعة الذين كانوا في انتظاره في «قهوة أبو فراخ» في الفوالة.
في هذه الأثناء، كان شيء آخر يدور في عزبة نصار، فقد ارتاب مرشد يُدعى محمد بطران في التجار الخمسة، فجمع أتباعه وهجم على منزل عبدالرحمن نصار، وهو الرجل الذي أخفيت عنده الجواري وعثر عليهن بالفعل، لكنه أخذ بعض المصوغات وجنيهين ذهبيين من عبدالرحمن مقابل عدم إفشاء سره، فخرج وقال لأتباعه إنه لم يجد شيئًا، بعدها طلب الجميع، التعجيل ببيع الجواري، وبالفعل حضر السمسار اليهودي ومعه زوجته تحت جنح الليل، لنقل الجواري، كما كان معهم أحد خدم الباشا، لإرشادهم إلى طريق القصر.
عاين «الباشا» الجواري، وبعد مساومة دفع فى ثلاث منهن ٦٠ جنيهًا، إضافة إلى ٧ جنيهات للسماسرة، ثم استبدل إحدى الجواري بزميلتها، بعد أن رأى أن الأولى معتلة الصحة، ورجا النخاسون، على باشا شريف إخفاء الجواري الثلاث الباقيات في قصره لحين توفر مشترٍ، وهو ما تم بالفعل في اليوم التالي.
وكان الدكتور عبدالحميد الشافعي، وهو طبيب مرموق، تعلم في أوروبا وتزوج من طبيبة أوروبية شهيرة، أقامت معه في مصر بعد ذلك وعملت طبيبة لسيدات الأسر الكبيرة في مصر، واستعرضت السيدة الجواري الثلاث، واشترت منهن واحدة، وطلبت إبقاء اثنتين لعرضهما على بعض معارفها، وتوجهت الطبيبة بهاتين الجاريتين، إلى منزل حسين باشا واصف مدير مديرية أسيوط، وكانت حرم الشافعي طبيبة خاصة، لزوجته، وعرضت عليها الجاريتين، فاشترت واحدة، وأرسلت الأخيرة إلى عزبة محمد باشا الشواربي عضو مجلس النواب وأحد أعيان قليوب.
كان مجلس شورى القوانين في تلك الفترة قد بدأ في المشاكسة والعناد، فرفض المرتبات الضخمة للموظفين الإنجليز ورأى أنها تستنزف ميزانية الدولة، كما أنهم بلا كفاءة تذكر تؤهلهم لتولي تلك المناصب.. وانتقد المجلس شغل المناصب العليا في مصر لعددٍ من الأوروبيين، كما طالب بتفكيك «مصلحة إلغاء الرقيق» لأنها تزدحم بالأوروبيين الذين يتقاضون مرتبات ضخمة، بالإضافة إلى أن تجارة الرقيق قد انتهت من مصر.
في غضون ذلك، ظهرت علامات الثراء على محمد بطران - مرشد المباحث - فشك فيه زملاؤه وأبلغوا عنه، وبعد البحث تبين صحة الشكوك، فقد خولف القانون، وممن؟ من رئيس مجلس شورى القوانين وعضوين فى المجلس وطبيب مشهور، وبدت الفرصة سانحة للطم الجميع وإسكات الأصوات المشاغبة، والانتقام من المحرضين على رفض سياسات الاحتلال.
توجه ضابط مصلحة الرقيق بنقطة الأهرام، إلى حيث يقيم النخاسون الخمسة وألقى القبض على أربعة منهم، فى حين لاذ الخامس بالفرار، واعترف «النخاسون» تفصيليًا ببيع الجاريات إلى الباشوات المصريين، ووصلت إشارة إلى مأمور قسم السيدة زينب، وهو البكباشى محمد ماهر، فتوجه إلى منزل الدكتور الشافعي وسأله عن الموضوع، فأجاب الطبيب بمنتهى البراءة بكل تفاصيل الموضوع.
أرسل علي باشا شريف وحسين واصف باشا والدكتور الشافعي إلى قسم عابدين ليبيتوا فيه، على ذمة التحقيق فى القضية، أما الشواربي باشا، فإن الجنود الذين ذهبوا لإلقاء القبض عليه فلم يجدوه فى منزله بالقاهرة، وقيل لهم إنه موجود في عزبته في قليوب، فأرسلت إشارة عاجلة لضبطه وإحضاره مخفورًا إلى القاهرة.
وتوجه الضابط محمد ماهر إلى بيت رئيس مجلس شورى القوانين على باشا شريف، وطلب التحقيق معه، لكن الباشا تذرع بحصانته البرلمانية ورفض التحقيق، وتوجه على باشا شريف، إلى مكتب الإنجليزي، شيفر بك، وهم بالدخول، فمنعه الحاجب وجعله ينتظر فترة قبل أن يسمح له بالدخول، ووجه الضابط شيفر بك، إلى علي باشا شريف، تهمة الاشتراك في الاتجار بالرقيق، عندئذ لجأ الباشا إلى حيلة الاحتماء بسفارة أجنبية، وأنه واحد من رعاياها، حتى يتمتع بالامتيازات الأجنبية التي لم تكن قد ألغيت بعد، وتوجه القنصل الإيطالي مع نجل الباشا، إلى القسم وطلب الإفراج عنه لكونه أحد رعايا إيطاليا، وهو ما تم على الفور، أما واصف باشا والدكتور الشافعي، فقد أفرج عنهما بضمانة من عثمان باشا ماهر.
كان كبار المسئولين حينها يُصيفون خارج القطر المصري، فالخديو عباس كان مسافرًا للآستانة ومنها إلى فينيسيا وسويسرا، في هذه الأثناء، وصلت أخبار الحادث إلى نوبار باشا رئيس النظار ونائب الخديو، في قصره بالمنتزه بالإسكندرية، لكنه آثر الانتظار حتى يرجع الخديو، وبدا له أن الموضوع له أبعاد أخرى، فمن غير الطبيعي أن يتخذ شيفر بك إجراءات بمثل هذه الخطورة بدون موافقة ودعم رؤسائه.. وتحت الضغط الشديد على نوبار باشا، وافق على إحالة القضية إلى المحاكمة العسكرية، وصدر قرار من السردار كتشنر باشا، بتشكيل المجلس العسكري العالي برئاسة ضابط أرمني يُدعى زهراب باشا، وعضوية عدد آخر من الضباط الإنجليز والمصريين.
توجه الشعب - الذي أثاره موقف الاحتلال من مسئولين مصريين - بنظره إلى الخديو أملًا في إنقاذ الموقف، وأمر عباس حلمي الثاني بتأجيل القضية لحين عودته، لكن هذا التأجيل لم يستمر سوى يوم واحد، فالجميع في النهاية خضع لسلطان الاحتلال.
وتشكلت محكمة عسكرية في ٤ سبتمبر ١٨٩٤ لمحاكمة كل من اشترك في الجريمة، واستقطبت المحاكمة اهتمام جميع الأطراف، ومن هؤلاء الزعيم الوطني مصطفى كامل الذى انتقد بسرعة إجراءات تلك المحاكمة، فيما أرسلت الصحف المصرية مجموعة من مراسليها إلى قاعة المحكمة لموافاتها بتقرير إخباري يومي عن تطورات المحاكمة.
كما أرسلت «لندن تايمز» و«ذي مانشستر جارديان» صحفيين للتغطية الإخبارية، وكذلك فعلت الصحف الإيطالية والفرنسية.
وبدت محاكمة الباشاوات، كما أصبحت معروفة، فضيحة ذات أبعاد دولية وقتها.
أخذت المحاكمة شكل المواجهة بين معسكرين، على جانب وأحد برز معسكر المدافعين عن الرقيق وهم موالون للنخبة من المشترين، إضافة إلى محامي الدفاع وغيرهم من الوطنيين الذين يعتقدون أنه لا توجد جريمة في شراء الرقيق والجواري، وأصر هؤلاء على أن جلب الرقيق والجواري من دول مجاورة ليس في حقيقة الأمر سوى مهمة حضارية لتعليم هؤلاء الفتيات الفنون الراقية وشئون التدبير المنزلي وتعاليم الإسلام بطريقة لا يمكن أن يحصلن عليها في بلادهن.
على الجانب الآخر وقف المسئولون البريطانيون ودعاة إلغاء الرق، الذين رأوا في شراء الجواري مثالًا آخر على الوحشية والاستبداد، مما يثبت عدم قدرة المصريين على حكم بلادهم، وفي ذلك تبرير آخر لاستمرار الوجود البريطاني في مصر.
في قفص الاتهام، وقف حسين باشا واصف والشواربي باشا والدكتور الشافعي، بجوار النخاسين الأربعة المقبوض عليهم والمرشد الخائن والسمسار اليهودي وصاحب العربخانة، في حين كان علي باشا شريف قد سقط قبل ذلك بأيام متأثرًا بأزمة قلبية حادة، وأُجِّلت محاكمته إلى حين شفائه، وأرسلت المحكمة إلى القنصلية الإيطالية لتسألها هل علي باشا شريف يتمتع بحمايتها أم لا؟ فردت القنصلية الإيطالية بأن الباشا لم يدفع الاشتراكات المفروضة على الرعايا الإيطاليين، منذ عدة سنين، وعليه فهو لا يعتبر واحدًا من رعاياها.
دفاع المتهمين من الباشاوات انحصر في نقطة قانونية، هي أن الإثم هو الاتجار في الرقيق فقط، أما الشراء فلا يعاقب عليه القانون، وأن الاتهام ينحصر في النخاس فقط وليس بالنسبة للمشترين؛ واستغرقت «محاكمة الباشاوات» نحو عشرة أيام، ولما كانت الإدارة الإنجليزية قد شفت غليلها، وأسكتت الساسة في مصر وقرصت آذان البعض، فقد صدر الحكم كالتالي، براءة حسين باشا واصف ومحمد باشا الشواربي، أما الدكتور عبدالحميد الشافعى فقد أدين وصدر حكمٌ بحبسه خمسة شهور، كما صدرت أحكام على النخاسين وصلت إلى السجن خمس سنوات مع الأشغال الشاقة.
واتهمت جريدة «الأهرام» وقتها الطبيب، الشافعي، بأنه دسيسة إنجليزية، وقالت إنه اعترف ليورط الباشوات الثلاثة في القضية، بعدها مباشرة أصدر «الخديو» أمرًا بالعفو والسماح، عن علي باشا شريف، الذي قدم استقالته من رئاسة مجلس شورى القوانين، بذريعة ظروفه الصحية، ولزم بيته حتى مات بعد ذلك بنحو عامين إثر أزمة قلبية.
بعد ذلك، لم يجرؤ مجلس شورى القوانين على أن يثير مرة أخرى موضوع إقفال أو تفكيك مصلحة إلغاء الرقيق، أما الجواري فقد خرجن من قاعة المحكمة إلى الحرية، ومنحتهن مصلحة إلغاء الرقيق مستندات تثبت عتقهن من الرق، وأقمن لفترة معًا في دار الجواري المعتقات في القاهرة، وحين غادرن المنزل إما للعمل في مصر أو للزواج واختفت أخبارهن فلم يُعرف أين ذهبن!!