تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
أنا القاتل..
بصمتي، وسلبيتي، وغضّي للطرف، وسكوني تجاه الظلم، و“,”تطنيشي“,” على الاحتقان، وتجاهلي للكراهية النابتة في بلادي.
أنا القاتل..
بتحويل نظري إلى لا شيء، والقفز من فوق حواجز المشكلة، والتهوين مما يجري في ملف الأقباط المصريين.
أنا، وأنتم، ومعشر الجالسين على مقاعد المتفرجين.. رأينا الاضطهاد ولم ننكر، وشهدنا التمييز ولم نتحرك، وعرفنا التفرقة بين أبناء الوطن الواحد ورضينا، وباركنا، وهللنا، و“,”مصمصنا“,” شفاهنا صامتين.
في فتنة الخصوص، انسكب الدم ساخنًا ليكشف بحار الكراهية، ورمال الانقسام، في وطن علمونا محبته في طوابير الصباح المدرسية.
سنوات من التعصب الأعمى أنبتت أجيالاً لا ترى أي دين آخر، ولا تقبل بوجود معتقدات مغايرة، وتعتبِر الجنة جائزة حصرية لمن يؤمن بما يؤمنون.
كانوا يتلُون علينا كل يوم أناشيد الكراهية.. في المساجد، وعلى الأرصفة، وفي الفضائيات المتأسلمة؛ ليعلو السور يومًا بعد الآخر بين مسلمي مصر ومسيحيها، ويتربص كل طرف بالآخر.
كنا جميعنا صامتين على التطرف باسم الإسلام، والتمييز باسم الدين، والاعتداء على الآخر باسم الجهاد. لم نقل رأيًا، ولم نقاطع متعصبًا، ولم ننكر قبحًا.
في الخصوص؛ حيث الجهل ملِكًا، والفقر سكنًا، رسم صبية رسومات طائفية على أحد الجدران، ورد آخرون بكتابة لفظ الشهادتين على إحدى دور الأقباط، وانطلقت رصاصة طائشة في أحد الشوارع فأصابت شابًّا مسلمًا؛ فهرع شيخ المسجد إلى الميكرفون ليدعو إلى الجهاد، وانطلق الأتقياء الجهلة بغضبهم، وغبائهم، وتعصبهم؛ ليحرقوا منزلاً كاملاً لأسرة مسيحية، ثم يعتدوا بعد ذلك على الكنيسة القائمة هناك.
وتبادلنا كلمات الموالسة، والمجاملة، والدعوة إلى التهدئة. نسينا أن الغضب القبطي عمره عقود من الزمن، منذ كانت السلطة تجبر نساءهم على لبس نعلين مختلفي اللون؛ “,”حتى تكون مسخرة للناظرين“,”- على حد وصف المؤرخ الجبرتى. وتناسينا أن هناك من هم على مقربة من السلطة ما زالوا يكررون دعوة إلزام النصارى بدفع الجزية. ابتلعنا ريقنا صمتًا وشيوخٌ بلحى، يطلقون على أنفسهم “,”إسلاميين“,”، يعلنون صراحة عدم جواز رئاسة غير المسلم لمصر.
صمتنا على لفظ “,”أهل الذمة“,”، المكرر كل يوم في فضائيات تحمل اسم مصر، ونسينا أن هناك أخوَّة وطنية كانت وعاءً لأعظم إنجازات تاريخية شهدتها مصر الحديثة.
لا يعنيني رسوب الدولة كالعادة في التعامل مع الأزمة. فالدولة بشكلها الحالي، الأقرب إلى اللادولة، فاشلة في كل شيء، والطبيعي أن ترسب. لكن ما يعنيني هو صمت النخبة، وسكوت المثقفين، ورسوب أهل الحل والعقد، والمسيَّسين في أحزاب على كل لون وشكل.
كيف رضوا بانحراف الوطنية المصرية عن اعتدالها واتزانها؟ كيف قبلوا تغيير هوية مصر الليبرالية المتسامحة إلى هوية قائمة على الدين وحده؟ كيف لم ينتفضوا عندما مُدت سلالم الدين للصعود إلى الحكم؟ كيف صبروا على خداعهم باسم السماء؟ كيف سمحوا بالاعتداء على تاريخهم وحضارتهم؟
ما جرى في الخصوص ليس آخر المطاف، والعلاج لا يحتاج للجْنة تقصي حقائق، وإنما للجْنة مراجعة قيم ومبادئ ومفاهيم.. نحتاج ثورة مواطنة.. أعيدوا إلينا مصر مرة أخرى.
[email protected]