لم يحسم العدل الصراع الضارى بين الجوع والشبع بعد، لذا سيظل الحلم بالرحابة والحرية والخبز باقيا ما بقى الإنسان. ولأن الجوع كافر فهو لا يرحم سواء فى السلم أو الحرب أو النكبات أو الأوبئة. كذلك لا يكون مفرطا فى كفره وقسوته إلا إذا بلغ مستوى الإفلات من العقاب آفاقا بعيدة، أو عندما يصير الناس أخلاطا من الحشم والخدم البائسين العاجزين.. وعلى هذا النمط يتضخم الزمن ولا ينسى الصياد ما جاء من أجله ويُحطم كل شيء!
ما زال العالم مكانا سيئا، لم تحصل الأغلبية الصامتة فيه على خيرات بلادها، وأن هذا شيء لا بأس به، لأن العالم كان هكذا على الدوام، ولأنه سيظل هكذا على الدوام؛ فإن التنبؤ الوحيد الذى لم يصل إليه سوى الجوعى هو أن العالم لن ينتهى إلا بعد أن يهيمن الجوع، وبما أن الجوع يعنى الموت، وبما أنه يملأ الدنيا فقد شغل الناس منذ أن وُجد الناس.
قديما قال العرب فى وصف أحدهم: أَجْوَع من ذئب. وجاء فى دعائهم على عدوهم: رماه الله بداء الذئب- أى الجوع ـ فالذئب يقضى دهره جائعا وإن لم يجد ما يسد به رمقه استف التراب.
وحُكى أن المأمون كان مُولعًا بأكل الطين. فقال: أما أحد يدلنى على ما يُذهب عنى شهوته؟ فقال له رجل: أنا يا أمير المؤمنين. فقال له المأمون: بماذا؟ فقال له الرجل: بعزمة من عزمات العقلاء.
وقال عبدالملك بن مروان لابن الزعيرية: هل اتخمت قط؟ (وهو الشبع الزائد) قال: لا. قال: وكيف ذا؟ قال: لأنا إذا طبخنا أنضجنا، وإذا أكلنا أجدنا المضغ، ونعطى المائدة الكفاف، ولا نُخليها.
ودعا رجل أبا عبدالله بن الحجاج وآخر الطعام إلى المساء فقال أبو عبدالله: يا ذاهبا فى داره جائيا/ بغير معنى وبلا فائدة/ قد جُن أضيافك من جوعهم/ فاقرأ عليهم سورة المائدة.
وكان الأصمعى يطوف بالبيت الحرام فشاهد أعرابيًا ممسكًا بأستار الكعبة، ويقول: اللهم أمتنى ميتة أبى خارجة! فسأله الأصمعي: وكيف مات أبو خارجة. قال الأعرابي: أكل فامتلأ، وشرب عصير عنب، ونام فى الشمس، فمات شبعان ريان دفيان.
وقال إبراهيم بن أدهم: الجوع يُرق القلب. وعن الفُضيل قال: خصلتان تُقسيان القلب: كثرة النوم، وكثرة الأكل.
وسأل داود الطائى سفيان ناصحًا له: إذا كنت تشرب الماء البارد، وتأكل اللذيذ الطيب، وتمشى فى الظل الظليل، فمتى تحب الموت والقدوم على الله تعالى؟ فبكى سفيان.
ويقول محمد بن بشر: دخلت على داود الطائى المسجد فصليت معه المغرب، ثم أخذ بيدى فدخلت معه البيت، فقام إلى دن له كبير فأخذ رغيفا منه يابسا؛ فغمسه فى الماء، ثم قال: ادن فكل، قلت: بارك الله لك فأفطر، فقلت: يا أبا سليمان، لو أخذت شيئا من ملح، فسكت ساعة، ثم قال: إن نفسى تنازعنى ملحًا ولا ذاق داود ملحًا ما دام فى الدنيا، قال: فما ذاقه حتى مات رحمه الله.
أما غنية بنت عفيف (أم حاتم الطائي)، فقالت بعد أن اختبرت نواجز الجوع، قالت: لعمرى لقدماً عضنى الجوع عضة فآليت ألا أمنع الدهر جائعا.
ويقول المتنبي: والجوع يرضى الأسود بالجيف. وشاعر آخر: ليس يُغنى الهوى من الجوع شيئا/ إن للجوع صولة تُذهب الوجد وتُنسى المُحب ذكر الحبيب.
وعلى الجانب الآخر من النهر يقول مايكوفسكي: يمكن أن ينسى الإنسان أين ومتى امتلأ بطنه واكتنز لحم ذقنه، ولكن الأرض التى عرف فيها معنى الجوع لا يمكن أن ينساها أبدًا.
ألبرتو مورافيا سجل احتجاجه الرسمى والشعبى ضد الجوع ومن يصدرونه للأغلبية: هنالك أناس يتألمون من الجوع والمرض، بينما آخرون يلهون ويلعبون.. إننا إذا أردنا أن نفكر بكل ما ينتاب العالم من بؤس وما فيه من شقاء، لفقدنا لذة النوم وفارقت الابتسامة حياتنا إلى الأبد.
إيزابيل اللندى أيضا أخذت على من يجلسون ممتلئين ليتحدثوا عن الجوع بوصفه الطريقة المثلى لحل الأزمات، ويصادرون حق من يعانونه فى الإعتراض: من لم يعان الجوع ليس له الحق فى إطلاق الأحكام.
تعمى عيون البعض من الجوع، وتعمى عيون البعض الآخر من الذهب.. هكذا وصف مكسيم جوركى الأثر البالغ للجوع على الناس.
ويقول الناس فى فرنسا: عندما يدق الجوع الباب يهرب الحب من الشباك. وفى إيرلندا: البطن الفارغ حمل ثقيل. وفى هولندا: الجوع سيف حاد. وفى اليابان: عندما تدق ساعة الجوع لا طعام سيئًا. وفى الهند: الجوع لا يهمه المذاق.