بعد مقال الأسبوع الماضى بعنوان (الفاعل والمفعول به)، والذى تحدثنا فيه عن مقارنة سريعة بين الماضى والحاضر فى مخططات تقسيم المنطقة العربية والذى لاقى صدى لدى عدد غير قليل من السادة القراء المحترمين، والذين طلبوا أن نستفيض فى سرد أحداث تلك الفترة العصيبة والتى مهدت لاتفاقية سايكس - بيكو فقد وجدت أنه لزاما على تلبية هذا المطلب بناء على ما ورد فى المصادر التاريخية المعتمدة والموثوق فيها مع بعض الرؤى التحليلية التى تتخلل هذا السرد ورأيت أن نبدأ بضرورة معرفة أن هناك شخوصا لعبوا أدوارًا خطيرة على مسرح السياسة العربية قبيل الحرب العالمية الأولى وخلالها وبعدها، منهم: لورانس، فيلبى، جيرترود، هوجارت، ستورز وغيرهم من أعضاء المكتب العربى بالقاهرة - تابع للمخابرات البريطانية - ممن وضعوا الخطط ومهدوا لاتفاقية «سايكـس - بيكـو» وأقاموا عروشا ودعموا أركانها، ومن تبوأوا هذه العروش ظلوا عملاء لبريطانيا، ينفذون مخططاتها مقابل العملات الذهبية الإنجليزية.
ومن هؤلاء الإنجليز من قام بأدوار البطولة والبعض الآخر قام بأدوار الكومبارس فى مسرحية - والتعبير لفيلبى، أعدت فى القاهرة وبغداد والرياض وجدة وعمان ودمشق، أقاموا عروشًا وكيانات مصطنعة مثل إسرائيل وغيرها، ومما لا شك فيه، أن التاريخ العربى فى تلك الحقبة قد تم تزييفه إرضاء لأسرة مالكة أو حاكمة، وأن الحقائق التى تمس هذه الحقبة مازالت مستترة وراء أستار كثيفة من الزيف والتضليل!
اتفاقية سايكس - بيكو - سازانوف
عقب اندلاع الحرب العالمية الأولى خططت دول الحلفاء من أجل تحقيق مآربها القديمة فى تقسيم ولايات المشرق العربى التابعة للامبراطورية العثمانية، وبدأ المخطط بإجراء مباحثات سرية خلال عام ١٩١٥ بين وزراء خارجية إنجلترا وفرنسا وروسيا القيصرية، فى لندن وباريس وبتروجراد، وظلت المذكرات السرية متبادلة بين الدول الثلاث حتى مارس ١٩١٦ عندما تم التوقيع على معاهدة «بطرسبرج»السرية لتقسيم ممتلكات الإمبراطورية العثمانية وكان أهم بنودها:
١- منح روسيا القيصرية الولايات التركية الشمالية والشرقية.
٢- منح بريطانيا وفرنسا الولايات العربية التابعة للباب العالى.
٣- إنشاء إدارة دولية فى فلسطين يتم تحديدها بعد استشارة روسيا القيصرية وبالاتفاق مع بريطانيا وفرنسا وشريف مكة!
فى التاسع من مايو ١٩١٦ تم التوقيع على الجزء التنفيذى من معاهدة بطرسبرج بين الدول الثلاث، والذى اشتهر فيما بعد باسم المتفاوضين «مارك سايكس» عن الجانب البريطانى و«جورج بيكو» عن الجانب الفرنسى، وبموجب هذه الاتفاقية يتم منح قيصر روسيا: إسطنبول والمناطق المتاخمة لمضيق البوسفور وأربع ولايات متاخمة للحدود الروسية شرقى الأناضول، إضافة إلى تقسيم المنطقة إلى خمسة أقاليم على النحو التالى:
١- المنطقة الزرقاء: وتشمل لبنان بدءا من صور وتمتد شمالًا وتتسع فى تركيا لتصل إلى نهر دجلة شرقًا وتتجاوز مرسيس غربًا وسيواس شمالًا، وتخضع هذه المنطقة بكاملها للحكم الفرنسى.
٢- المنطقة الحمراء: وتشمل الكويت والعسير وجنوب العراق حتى جلولاء، وتتضمن البصرة وبغداد وكربلاء والنجف وتخضع للحكم البريطانى.
٣- منطقة (أ) وتشمل المنطقة الممتدة من رواندزوز فى كردستان شرقًا إلى جبل لبنان غربًا وماردين شمالًا وطبرية جنوبًا، وتشمل الموصل وحلب ودمشق وتخضع لحكم عربى تحت النفوذ الفرنسى، وبما يضمن لفرنسا الأفضلية فى الشئون المالية والتجارية والوظائف العامة.
٤- منطقة (ب) وتمتد من السليمانية فى كردستان شرقًا إلى حدود مصر غربًا وإلى العقبة والساحل الشرقى من الخليج العربى جنوبًا، وتخضع للنفوذ البريطانى على نحو مماثل للنفوذ الفرنسى فى المنطقة.
٥- منطقة فلسطين وتخضع لحكم دولى تستشار بشأنه روسيا وشريف مكة، وتستخدم فرنسا ميناء حيفا كميناء حر، ولإنجلترا ميناء الإسكندرونة بالضفة نفسها، كما منحت الاتفاقية بريطانيا حق إنشاء خط سكة حديدية بين حيفا وبغداد لنقل قواتها الحربية.
وقد حرصت الدول الثلاث على إبقاء هذه الاتفاقية سرًا، حتى تسلم البلاشفة الحكم فى بتروجراد فأسرع تروتسكى إلى نشرها كنموذج للشكل الاستعمارى الذى قامت على أساسه الحرب العالمية الأولى، وبادر جمال باشا الوالى العثمانى على سوريا وبإيعاز من ألمانيا إلى لفت أنظار العرب إليها ومناشدتهم العودة إلى الصف الإسلامى! وإلى خداع إنجلترا وفرنسا لهم.
كان الكشف عن هذه الاتفاقية السرية من أشهر الفضائح السياسية والدبلوماسية الخاصة بالمكر والغدر بالعهود فى التاريخ، لا سيما أنها جاءت بعد نحو ثلاثة أشهر فقط من تعهدات ماكماهون للشريف حسين باستقلال ووحدة البلاد العربية، وزاد من جريمة بريطانيا، تلك المحاولات المضللة التى بذلها مكتبها العربى فى القاهرة !
وبالإضافة إلى عنصر الغدر وإنهاك حقوق الشعوب، كانت الحقيقة النفعية فى إخضاع المناطق الأكثر حضارة للحكم الاستعمارى المباشر، ومنح الاستقلال للمناطق الأقل حضارة!
وعقب الحرب العالمية الأولى، لم يلتفت أحد إلى هذه الاتفاقية عند التسوية النهائية، فقد وجدت كل من فرنسا وإنجلترا نفسيهما فى مأزق، بسبب انكشاف سرها، وأصرت فرنسا على التمسك بها مما استدعى عقد سلسلة من الاجتماعات بين «لويد جورج وزير الحرب ورئيس الوزراء الريطانى» و«كليمنصو رئيس الوزراء الفرنسى» كان هدف فرنسا ضمان الاستيلاء على سوريا ولبنان، على الرغم من تدخل الرئيس الأمريكى ولسن، وإرسال لجنة «كينج - كرين» للتحقيق فى الموضوع، فقد ظل النزاع بين الدولتين المتحالفتين يتفاقم وتحول إلى عداء قومى وإعلامى، وفى الأول من سبتمبر ١٩١٩ تقدم لويد جورج بمقترحات تعترف فيها إنجلترا بحقوق فرنسا بالانتداب على سوريا بناء على تقاليد وبشكل جزئى، كما تضمنت المقترحات سحب القوات البريطانية من سوريا لتحل محلها قوات فرنسية فى الغرب وقوات عربية فى الشرق، وبالتحديد فى العقبة وعمان ودمشق وحمص وحماه وحلب، بينما المنطقة الساحلية على امتداد خط اتفاقية سايكس - بيكو تحت حكم الجيش الفرنسى، واحتفظت بريطانيا لنفسها بحق مد سكة حديدية وخط أنابيب نفط من العراق إلى ساحل المتوسط، وكان هدف لويد جورج توفير نفقات الاحتلال العسكرى فى منطقة لا تنوى إنجلترا الاحتفاظ بها، وطرح الاقتراح على المجلس الأعلى للحلفاء فى باريس فى ١٥ سبتمبر ١٩١٩ فوافق عليه كليمنصو بتحفظ واحد يتعلق بالحدود النهائية لمنطقة الانتداب، وبالتحديد حق فرنسا فى الاستيلاء على القسم الشرقى من سوريا أيضا، وهو ما فعلته، وعارض فيصل بن الحسين هذا الاقتراح محتجًا بالبيان الأنجلو - فرنسى ١٩١٨ وبالتعهدات السابقة.
لكن ما هى مراسلات الحسين - ماكماهون التى وردت فى معرض حديثنا منذ قليل ؟
عندما نشبت الحرب العالمية الأولى كان أمام العرب طريقان: الوقوف إلى جانب الدولة العثمانية أو الثورة عليها وتحقيق استقلالهم عنها، حاول الشريف حسين التوفيق بين الاتجاهين، فأرسل مبعوثين إلى الزعماء العرب ومدى استعدادهم للثورة، وفى الوقت نفسه ظل على تواصل مع «ماكماهون» المعتمد البريطانى بالقاهرة، حيث رأت فيه بريطانيا الزعيم المأمول لقيادة القوات العربية ضد الأتراك، نظرًا لمكانته كشريف مكة المكرمة ونفوذه بين القبائل العربية فى الحجاز، إلا أن الباب العالى طلب منه تأييد الدولة العثمانيه وعودتها إلى الجهاد ضد دول الحلفاء وتحرج موقف الحسين، خصوصا عندما حاصرت أساطيل الحلفاء سواحل الحجاز، وعبر الحسين عن رغبته فى التفاهم مع بريطانيا فى رسالة بعث بها إلى «رونالد ستورز» المستشار الشرقى بالسفارة البريطانية بالقاهرة وألمح إلى أنه يستطيع قيادة أتباعه، بشرط أن تتعهد بريطانيا بمساعدته، وأتاه خطاب «كتشنر» وزير الحربية البريطانية يتضمن وعدًا قاطعًا بضمان بقائه أميرًا لمكة، وحمايته من كل اعتداء خارجى ومساعدة العرب لنيل حريتهم بشرط مؤازرة بريطانيا ضد تركيا، ونشأت المفاوضات بمراسلات بين الحسين والمعتمد البريطانى فى القاهرة عرفت فى الأوساط الدبلوماسية بمراسلات الحسين - ماكماهون.
أخذ زعماء الحركة القومية العربية على الحسين انفراده بالتعامل مع بريطانيا ووثوقه الكامل بوعودها، وكان عليه إبرام معاهدة صريحة ملزمة مصادقا عليها، لكنها نكثت بوعودها وطعنت العرب باتفاقية سايكس - بيكو ثم وعد بلفور، والذى منح فلسطين للعصابات الصهيونيه ليقيموا عليها دولتهم!
نستكمل الأسبوع القادم إن كان فى العمر بقية.