لم تكن إشارة الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى إطلاق 21 ألف شائعة خلال ثلاثة أشهر فقط أمرا مفاجئا، فكل صباح تطالعنا الصحف ببيان صادر عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء، يكذب فيه عددا من الشائعات، وأثناء إعداد هذا المقال طالعت بيانا يكذب ثمانى شائعات تخص عمل قطاعات مختلفة فى الدولة، تنوعت بين وزارات الإسكان والثقافة والداخلية والتضامن الاجتماعى والعدل والتخطيط والكهرباء والزراعة وهيئة قناة السويس.
ناهيك عن عشرات الشائعات التى تصادفك فى وسائل المواصلات العامة وعلى المقاهى ووسائل التواصل الاجتماعى وتجمعات الأصدقاء والأقارب.
21 ألف شائعة خلال ثلاثة أشهر بمتوسط 233 شائعة يوميا كفيلة بهدم مجتمع بحجم المجتمع المصري، لكن عدم نجاح مطلق الشائعات فى تحقيق مآربه وأهدافه، يؤشر إلى نجاح أجهزة الدولة فى مواجهة هذه الحرب الضروس، ويؤشر أيضا إلى وعى فئات وشرائح كبيرة فى المجتمع بالهدف من وراء إطلاق كل هذا الكم من الأكاذيب والشائعات، وهو زعزعة الثقة فى الدولة ومؤسساتها من ثم إثارة الفوضى العارمة.
ومع ذلك لا ينبغى الإفراط فى التفاؤل، فهذا الكم اللانهائى من الشائعات يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن هناك من أعد غرفة عمليات للحرب النفسية تعمل على مدار الساعة تدرس وتخطط وتنفذ وكذلك ترصد مسار كل شائعة تطلقها، «كيف انتشرت؟ وفى أى فئات وشرائح اجتماعية؟ وعند أى نقطة توقفت؟».
وفى المقابل لا تزال منصات مواقع التواصل الاجتماعى تتفاعل إيجابيا مع كل شائعة تصدر دون التحقق من صدقها وطبيعة مصدرها، وأعنى بالمنصات هنا الحسابات والمواقع الشخصية التى تمثل الجمهور المستهدف بالشائعة.
وحتى لو تم تكذيب شائعة ما على نطاق واسع؛ فإن العبرة ليست بوأد كل شائعة على حدة، وإنما بمحصلة التأثير النهائى لكل هذا الكم من الشائعات، فليس من المتصور أن يكون هدف مطلق تلك الشائعات تصديق هذه الشائعة أو تلك الأكذوبة، وإنما التأثير النهائى لإجمالى ما يطلقه من شائعات بشكل مكثف وعلى نحو ممنهج ومدروس من حيث التوقيت ونوع الشائعة وفى إطار عملية مستمرة، وهذا ما يفسر إطلاق هذا الكم اللامحدود من الشائعات والأكاذيب.
بمعنى آخر، المستهدف هو إشاعة حالة من انعدام الثقة فى مؤسسات الدولة ككل، وأن جميع ما يصدر عنها ينطوى دائما على خداع للمواطن وتزييف للحقائق والمعلومات.
رغم التماسك البادى للمجتمع المصرى فى مواجهة حرب الشائعات علينا ألا نتفاءل لأن العدو يستغل معاناة الناس من الآثار السلبية الناتجة عن إجراءات الإصلاح الاقتصادى من ارتفاع الأسعار وانخفاض مستوى معيشتهم، علاوة على تدنى المستوى الثقافى وشيوع التفكير الخرافى وانحسار التفكير العلمى، وهذه الأجواء كلها تخلق بيئة صالحة لانتشار الشائعة، ومن الطبيعى أن تؤثر الشائعة فى مجتمع لا يزال يؤمن بالخرافة والعلاج بالسحر من مس الجن والعفاريت، وهذه البيئة يدعمها خطاب دينى مزيف يلاحق المجتمع ليل نهار، بأوهام العلاج بالقرآن والطب النبوى والحجامة وما إلى ذلك من دروب الخرافة.
أيضا لا ينبغى أن ننسى الدور السلبى الذى لعبته أغلب الصحف ووسائل الإعلام فى خلق مناخ تزدهر فيه بكتيريا الشائعات، عندما تفرغت غرف الأخبار لنسج القصص والحكايات الخيالية حول ثروات مبارك وعائلته، وتفاصيل ما جرى من حوارات بين الرئيس السابق وأبنائه وزوجته، وبعضها كان يحدد نوع ومصدر الوجبات التى كان يتناولها مبارك فى محبسه، ناهيك عن تورطها فى نشر وترويج الكثير من الأخبار الكاذبة التى تعمدت جماعة الإخوان الإرهابية صناعتها أثناء أحداث يناير 2011 وما تلاها من سنوات الفوضى.
صحيح أن هذه الحالة قد انحسرت بشكل كبير لكن بعض مظاهرها لا يزال موجودا، أخطرها اعتماد بعض الصحفيين على مواقع التواصل الاجتماعى كمصادر رئيسية ووحيدة للأخبار، وأظن أن علاج الآثار السلبية لتلك المعالجات سيكلفنا الكثير من الوقت، وأمام الصحف ووسائل الإعلام معركة كبيرة فى سياق حرب الشائعات المشتعلة، هى معركة استعادة ثقة الجمهور، ولن يتحقق ذلك إلا بدورات تدريبية مكثفة للصحفيين، وتطبيق صارم وحازم لميثاق الشرف الصحفى والإعلامى، وهو الدور الذى تتخاذل عن القيام به حتى الآن جميع المؤسسات المعنية، بدءا من نقابة الصحفيين مرورا بالهيئتين الوطنية للصحافة والوطنية للإعلام، وصولا إلى المجلس الأعلى للصحافة والإعلام، ولا أدرى لماذا تأخر رئيس الوطنية للصحافة الكاتب الصحفى كرم جبر عن عقد مؤتمر مناقشة مشكلات الصحافة الذى أعلن عنه قبل نحو شهرين.
حرب الشائعات يجب أن تواجه بتدفق مضاد للأخبار والمعلومات التفصيلية عن كل ما تنجزه مؤسسات الدولة فى شتى المجالات، وما تواجهه من إخفاقات وتحديات ومشكلات أثناء تنفيذها لمشروعاتها وبرامجها حتى تكسب ثقة الرأى العام وتخلق مناخا مقاوما لبكتيريا الشائعات.
وظنى أن الحكومة فى سبيل تحقيق ذلك مطالبة بتقييم أداء إدارات العلاقات العامة والإعلام الخاصة بكل مؤسسة ووزارة وهيئة، والاستعانة بخبرات إعلامية تعرف جيدا قيمة المعلومة وكيفية وتوقيت إصدارها.
إعادة تشكيل أجهزة العلاقات العامة والإعلام ينبغى أن يأتى فى سياق استراتيجية وخطط جديدة يتم صياغتها بناء على دراسة وافية لطبيعة الشائعات التى تطلق صباح كل يوم من حيث التوقيت والعدد والتصنيف ومسار انتشار كل شائعة، ولا بد أن أجهزة الدولة المعنية تقوم بهذا النوع من الدراسات، وهذا ما انعكس فى حديث الرئيس عبدالفتاح السيسى بشأن الـ21 ألف شائعة.