السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مــالـك الحــزيـن

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حلَّقت على كتاب «كليلة ودمنة» فى مقال سابق؛ ذلك الكتاب الذى يُعدُّ بلا ريب أحد روائع الأدب العالمي، وذكرتُ أن «كليلة ودمنة» تُرجِم من الهندية إلى الفارسية، ثم بعد ذلك ترجمه عبداللـه بن المقفع من الفارسية إلى العربية، وقلت آنذاك: إن ذلك الكتاب عبارة عن مجموعة من الحكايا حُكيت على ألسنة الحيوانات والطير، حكاها «بيدبا» الفيلسوف لـ«دبشليم» ملك الهند، فلما رأى «بيدبا» ظُلم هذا الملك للرعية، أراد أن يُسْدِيَه الموعظة من طَرْف خفى، فأشار إلى أفعال تقع من الطيور والحيوانات، وهى فى حقيقتها سلوكيات تقع من بنى الإنسان.
ومسرح أحداث ذلك الكتاب هو الغابة؛ حيث يُجسِّد الأسد دور الملك، أما خادم الملك فيجسِّد دوره ثور اسمه «شتربة»، وأما عن «كليلة ودمنة»؛ فهما اثنان من حيوان «ابن آوَى» (وابن آوَى حيوان دون الذئب وفوق الثعلب)، وثمة شخصيات أخرى كثيرة من الحيوانات والطيور.
وفى مقال اليوم أصنع ما صنعه هدهد سليمان فأُحلِّق فوق تلك الغابة من جديد، وآتيكم بنبأ «الحمامة والثعلب ومالك الحزين»، ولكن مَن يكون «مالك الحزين» هذا؟ إنه أحد الطيور التى تعيش على الماء الذى لا يجرى كالبحيرات الصغيرة والمستنقعات، ومن أسمائه كذلك «ابن الماء» و«أبو قردان»، ولعلكم تتساءلون: لماذا يُسمَّى هذا الطائر بـ«مالك الحزين»؟ إنه مالك؛ لأنه يعيش فى البحيرات والمستنقعات الراكدة ولا يَبْرَحُها حتى تجف، فهو يعُدُّها مِلْكًا له، فإذا جفَّت أُصيب بالحزن وطأطأ رأسه مثلما يفعل الإنسان إذا أَلَـمَّ به كَرْب، لذلك سُمِّى مالكًا ولهذا وصف بالحزين!!
قال «دبشليم» الملك لـ«بيدبا» الفيلسوف: اضرب لى مثلًا فى شأن الرجل الذى يرى الرأى لغيره ولا يراه لنفسه.. قال الفيلسوف: إن مثل ذلك مثل الحمامة والثعلب ومالك الحزين، قال الملك: وما مثلهن؟.. قال الفيلسوف: كانت هناك حمامة تبيض فى رأس نخلة تضرب بطولها كبد السماء، ثم بعد أن يفقس بيضها، ويصبح عندها أفراخ صغيرة، جاءها ثعلب كان قد تَعَاهَد ذلك منها، فيقف بأصل النخلة ويصيح متوعدًا إيَّاها إن لم تُلقِ إليه بأفراخها ليأكلها، فسوف يصعد إليها ويأكلها معهم؛ فتلقيهم إليه، وظل الأمر على هذا النحو مرات عدّة.
وذات مرة بعد أن فقس بيضها، إذ بمالك الحزين يحطُّ على النخلة، فلما رأى الحمامة كئيبة حزينة، قال لها: ما لى أراكِ كاسفة البال، سيئة الحال؟ فقالت له: إن ثعلبًا قد بُليت به، كلما كان لى أفراخ جاء يهددني، ويصيح فى أصل النخلة؛ فأخاف منه فأُلقى إليه بأفراخى.. فقال لها: إذا أتاكِ ليفعل ما تقولين؛ فقولى له: لن أُلقى إليك أفراخي، فاصعد إليَّ إن استطعت، فإذا استطعت وأكلت أفراخى، طرت عنك ونجوت بنفسى، ثم طار عنها «مالك الحزين» وحط على شاطئ نهر.
ثم جاءها الثعلب، ووقف بأصل النخلة وصاح كما كان يفعل، فأجابته الحمامة بما علَّمها «مالك الحزين»، قال لها الثعلب: أخبرينى مَن علَّمكِ هذا؟ قالت: علَّمنى «مالك الحزين».. فتوجه الثعلب إليه على شاطئ النهر، وقال له: يا مالك، إذا أتتك الريح عن يمينك فأين تجعل رأسك؟ قال: عن شمالي.. قال: فإذا أتتك عن شمالك فأين تجعل رأسك؟ قال: عن يميني.. قال: فإذا أتتك الريح من كل ناحية فأين تجعله؟ قال: أجعله تحت جناحي.. قال الثعلب: وكيف تستطيع أن تجعله تحت جناحك؟ ما أراه يتهيَّأ لك!!
قال مالك: بلى.. قال الثعلب: فأرنى كيف تصنع؟ فلعمرى يا معشر الطير لقد فضلكم الله علينا، إنكن تَدْرِين فى ساعة واحدة مثلما نَدْرِى فى سنة، وتَبْلُغْنَ من الأماكن ما لا نبلغ، وتُدْخِلْنَ رؤوسَكُن تحت أجنحتكن من البرد والريح، فأرنى كيف تصنع؟ فأدخل الطائر رأسه تحت جناحه؛ فوثب عليه الثعلب فقتله.. ثم قال: يا عدوَّ نفسه ترى الرأى للحمامة وتعلِّمها الحِيلة، وتعجز عن ذلك لنفسك، حتى يتمكن منك عدوُّك، ثم أَجْهَز عليه فأكله!!
فى هذه القصة كان «مالك الحزين» مثالًا على الإنسان الذى يرى الرأى لغيره، ولا يراه لنفسه، ونحن كثيرًا ما نقابل أناسًا فى تلك الحياة ينصحون غيرهم بالرأى الصائب فى مختلف الأمور، ولكنهم لا يستطيعون تطبيق هذه النصيحة على أنفسهم، مَثَلُهم كَمَثَل من يحمل شعلة يضيء بها لغيره ويحرق بها نفسه، أو مثل طبيب يصف لمرضاه دواءً لداء هو مصاب به، فيُشْفَوْن هم ويظل السُّقْم يملؤه!!