لماذا ينتحر الإنسان؟ هل لأنه أصبح واثقا من أن لا مكان لقدمه فى هذا العالم.. هل لأن روحه أخف من ثقل العوز والفقر.. هل التهمت الوحدة والقهر كل المساحات الآمنة فى الحياة فيقرر أحدنا أن يتخلص من هذا العبء؟ يفكر فى الاحتماء بحفرة صغيرة محاطة بالحجارة من كل جانب بعيدا عن الأخبار الرديئة وفانتازيا التصريحات وفوضى الفهم والحواس والغباء.
هل تحررت سيدة المترو من القيود التى دفعتها للموت تحت العجلات الصلبة؟ هل غرفتها الصغيرة المعتمة التى تسكنها الآن أكثر أمانا من عالمنا الفسيح والمشع بالشمس والضوء؟ ليست سيدة المترو وحدها من فكر بهذه الطريقة ولكنها آخر ما نمى إلى علمى خبر انتحاره.
فى رأيى أن المنتحرين لا يقدمون على هذا الفعل إلا لسببين: الأول: هو توحدهم الشديد مع فكرة الإيذاء البدنى أو النفسى الذى وقع عليهم كثيرا وبلا هوادة أو رحمة؛ فيصبح الأمر بالنسبة لهم اعتياديا ويصابون بالبلادة ومن ثم لا يشعرون بالخوف حين يؤذون أنفسهم أذى يقودهم إلى الموت.
الثاني: أن هؤلاء كافحوا طويلا من أجل مهمة ما تعنيهم، وتمثل لهم كل شيء، حياة أو موت، وفى كل جولة، وعند كل محاولة يفشلون.. ويعلنون أنه لم يعد لديهم الوقت أو الطاقة للتفاهم مع هذا العالم الثرثار، المحشو بالكلام والضوضاء والقتلة والقتلى والحمقى والعباقرة واللصوص والمجرمين والضحايا من أجل شيء، أو للا شيء!
هل كان منير رمزى يستطيع مواصلة حياته والاشتغال على موهبته وشعره دون تلك الفتاة التى أغرم بها غراما فادحا؟ بالنسبة له قرر أنه لن يستطيع، ومن ثم تخلص من حياته وترك لنا قصاصة صغيرة يقول فيها «أنا هارب». ما تركه «رمزي» من قصائد وأشعار لم يكن كافيا للحكم على كونه شاعرا كبيرا أم كهؤلاء الذين يجيئون ويروحون فى هدوء وبلا ذكرى أو أثر.
إذًا ما الذى لفت الشاعرة اللبنانية جمانة حداد لأن تضم كل ما تعرفه من سيرته وأشعاره فى كتابها الذى صدر منذ سنوات بعنوان: «مائة وخمسون شاعرا انتحروا فى القرن العشرين»؟ الذى دفعها كما تقول فى كتابها: إنه كتب قصائد حرة ومنثورة بالعربية فى زمن مبكر جدا، أى فى الأربعينيات، وكان متأثرا فى ذلك على الأرجح بدراسته وقراءته الشعر الإنجليزي. تتسم قصائده برومنطيقية حادة وإنشائية ساذجة غالبا، تخفف من سطحيتها بين الفينة والفينة بعض الصور الشعرية المفاجئة ذات المنحى السوريالي. تيمة الموت حاضرة فى غالبية أشعاره، ومثلها الحب واليأس والكآبة والغربة وعناصر الطبيعة كالشمس والقمر والبحر والغيوم. أطلق منير رمزى النار على نفسه فى مايو ١٩٤٥، ونشر ديوانه الوحيد عام ١٩٩٧ وعنوانه «بريق الرماد».
الشاعر السودانى عبدالرحيم أبوذكرى، الذى ضمته أيضا أنطولوجيا جمانة أحرق قصائده وأوراقه وقصاصاته، ثم انتحر برمى نفسه من قمة مبنى أكاديمية العلوم السوفيتية فى موسكو عام ١٩٨٩ بعد مروره بانهيارات عصبية ونوبات اكتئاب.
وتقول عنه الأنطولوجيا: «لطالما كان شغوفا بماياكوفسكي، وقد زاوج فى شعره بين عمق المعنى وبساطة التركيب اللغوي، وكان مشدودا إلى السماوات والكواكب والنجوم والفضاءات اللامحدودة التى شكلت بالنسبة إليه معادلا للحرية والانعتاق والتوق إلى التغيير. له ديوان وحيد صدر عام ١٩٧٣ عنوانه «الرحيل فى الليل».
الانتحار ليس حكرا على أحد وتختلف أسبابه من شخص لآخر. وأيضا لا تعد أشياء مثل البيئة والوضع الاقتصادي، والتحقق والشعور بالتقدير من قبل الغير أسبابا كافية لحماية أحد من الوقوع فى إغواء الخلاص. فكما أن هناك أشخاصا عاديين وفقراء ومقموعين وتعساء انتحروا، هناك أيضا أغنياء وعلماء ومشاهير أقدموا على الانتحار، إذن، هو ليس بدعة، ورغم مأساويته لكنه يعطينا فكرة: الحياة مزعجة بشكل عام، وأن الإغواء الأخير للإنسان سيظل دائما وأبدا: خطوتان وتصير حرا.