في عيد الميلاد المجيد أتذكره بابتسامته المشرقة ووجهه الهادىء ودماثته البادية، نبيلا - عرفته في سنواته الأخيرة - يستغرب القيم التي تلاشت، ويندهش من ثقافة المجتمع التي تبدلت، جميلا كان، عندما حكى لنا - معشر الشباب - عن مصر التي كانت، وعن الرجال العظام الذين أحبوها ومنحوها حياتهم.
كثيرا ما كان سعد فخري عبد النور، سكرتير عام حزب الوفد الراحل، يجلس في تواضع مع شباب مصر الليبرالي ليتحدث عن الحرية والتسامح والوحدة الوطنية، وفي واحدة من حكاياته الحديثة قال لنا، إنه ذهب إلى العباسية لمؤازرة ابن شقيقه منير فخري عبد النور، مرشح الوفد في انتخابات مجلس الشعب عام 2000، وكان مرشح الحزب الوطني وقتها قد دعا أبناء الدائرة إلى عدم انتخاب مرشح الوفد بدعوى أنه قبطي، والتف أنصار الحزب الوطني حول سيارة سعد عبد النور في تمثيلية سخيفة وهم يرددون "لا إله إلا الله"، وخرج سعد من سيارته بصعوبة ليقف أمام صيحات حمقاء تردّد نصف الشهادتين في انتهازية سياسية شطبت تاريخ السماحة المصري، وفوجىء الناس بهتاف سعد عبد النور "محمد رسول الله"، وهو ما صدمهم وأخرس ألسنتهم، فقال لهم السياسي العظيم: أنا مسلم مثلكم، وكل من يحب مصر يحمل دينا واحدا، لقد كان مكرم عبيد باشا يقول: "نحن مسلمون وطنا ونصارى دينا". وتفهم الناس الدرس جيدا، نحن جميعا على دين واحد ما دمنا في وطن واحد، إن كلمة قبطي تدل على المصري القديم، وهو ما يعني أن كل مصري قبطي - سواء كان مسلما أو مسيحيا - كما أن كل مصري مسلم بانتمائه لمصر التي تشرّبت كثيرا من حضارة الإسلام، تلك أمة قد خلت، وهؤلاء رجال لا يتكررون، أحبوا مصر وعلموا أن الانتماء إليها يجبُّ أيّ انتماء، وأيقنوا أن دعوات الكراهية لا يمكن أن تصدر إلا في أوقات التخلف وأزمنة التردّي.
لم يعش سعد فخري عبد النور ليرى الإرهاب ضد الإخوة في الوطن، باسم الدين، لم ير الرجل صعود البعض إلى سلالم الحكم على جثث الإخوة المسيحيين، ولم يشهد الوطني المخلص وحدة الوطن تتمزق تحت رايات الطائفية البغيضة.
وفي عيد الميلاد المجيد أهدى لروحه أبياتا من الشعر كتبها المبدع الأجمل صلاح جاهين، يقول فيها: "يا اتنين عجايز حاج ومقدّس / يا صورة طالعة من جواز السفر / يا رسم على وشّ التابوت مرسوم / في حفاير الفيوم / جبّانة م الزمن العتيق / مشهورة بالصناديق / وعليها بالألوان صور مخاليق / كاهن، مراكبي، ست بيت، تاجر/ بنيّة حلوة، عسكري، شاعر / صور بشر أيامهم انحسرت / مداينهم اندثرت / توابيتهم انكسرت / ما فضلش منها غير وشوش/ بيبصوا نفس البصة / وبيحكوا نفس القصة / مستغرقين في الموت بلا غُصّة / وفي الخلود رايحين / زي اللي في الجورنال في صفحة الموتى / قلت الشبه من أين يتأتَّى؟ / قالوا عشان الكل مصريين / الكل نفس الهوية / نعي المطارنة جنب نعي الشيوخ".