إن ما حدث في كلٍّ من كنيسة الخصوص والكاتدرائية المرقسية بالعباسية يجب ألا يُترك -كغيره من الأحداث التي تعَّرض لها الأقباط بعد وقبل الثورة- بدون عقاب لمن شارك أو حرَّض على هذه الجريمة المكتملة الأركان.
ويمكن تفسير ما حدث من خلال أحد سيناريوهين:
§ الأول: أن هناك من يريد أن ينتقل بالصراع السياسي إلى المجال الديني الأوسع، وبيئته الخصبة، التي تستطيع أن تستوعب الجميع، من المتطرفين، إلى المعتدلين، وصولاً إلى المواطن العادي، أو الكتلة الصامتة التي لا تتحرك مهما جرى في المحروسة من أحداث.
وإذا صدق هذا السيناريو؛ فإن أصحابه يصبُّون البنزين على النار، وهم بذلك لا يريدون أن تستقر الأوضاع بأي شكل من الأشكال.
الجدير بالقول هنا أن أصحاب هذا السيناريو قد يكونون من الطرفين –المسلم والمسيحي- أو طرف خارجي، وفي كلتا الحالين تتحمل الدولة والنظام الجديد المسئولية الكاملة عن الكشف عن الجناة الحقيقيين وتقديمهم للعدالة، وإذا لم يحدث ذلك؛ فإن النظام الجديد يكون متورطًا -بالامتناع عن الكشف- بالمشاركة في هذه الأحداث.
§ السيناريو الثاني: التحريض باسم الدين، بمعنى أن يكون هناك من استغل جهل فئة أو شريحة اجتماعية معينة بصحيح الإسلام، كما هو حادث في الكثير من الأمور بعد الثورة؛ للنيل من المسيحيين وإرهابهم في وطنهم.
ومن قام بذلك ظنًّا منه بأنه يخدم الإسلام فهو مخطئ، والإسلام منه بَراء؛ فالإسلام حث على الترفق في الحديث معهم، ومجادلتهم بالتي هي أحسن؛ لأن في ذلك نزعًا للأحقاد، وتنقية للنفوس مما يعلق بها من حقد، قال تعالى: ( وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) [العنكبوت: 46] .
كذلك حث َّ الإسلام على توفير الحياة الآمنة لأهل الذمة، كما حث على الصدق في التعامل والعدل والسلام مع غير المسلمين، وقال أفضل الخلق محمد (صلى الله عليه وسلم): ( مَنْ آذَى ذِمِّيًّا فَأَنَا خَصْمُهُ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) [الخطيب]، وقال: ( من ظلم معاهدًا، أو انتقصه حقًّا، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة ) [أبو داود] .
وبغض النظر عن صدق أيٍّ من السيناريوهين، فإن الواقع يؤكد أنه من بين القضايا المثيرة للجدل تلك الخاصة بحدود مسئولية أنظمة الحكم المتتابعة عن تضخم مشاكل الأقباط، لا سيما بعد قيام ثورة يوليو 1952.
وفي الوقت الذي يذهب فيه قطاع من الدارسين والسياسيين إلى تحميل نظام عبد الناصر الوزر الأكبر في تجذير مشاكل الأقباط، أو على الأقل عدم القيام بكل ما كان بإمكانه القيام به لحل وتسوية مشاكل الأقباط قبل تفاقمها؛ فإن الاتجاه العام في الدراسات المصرية يرى أن تضخم وتفجُّر مشاكل الأقباط وهمومهم يرجع إلى سياسات الرئيس السادات، التي اتبعها بعد توليِّه السلطة مباشرة؛ عبر تبنِّي تنظيم الجماعات الإسلامية لضرب التيارات السياسية الناصرية واليسارية في الجامعات المصرية؛ الأمر الذي ضاعف من جرعات أسلمة المجتمع، وعلى نحو أوجد الأجواء الطائفية التي قادت إلى تضخيم الشقاق الطائفي.
وهناك ما يشبه الاتفاق على أن مرحلة مبارك تعتبر مرحلة مواصلة جني ثمار الطائفية، دون رؤية متكاملة لوقف المد الطائفي أو التخلص من الميراث القديم، وإن كان ذلك لا ينفي وجود محاولات متقطعة لتجاوز أجواء الاحتقان الطائفي، أو البحث عن حلول تدريجية لعدد من مشاكل الأقباط.
وفي ظل الثورة، وعهد الدكتور مرسي، لم ير الأقباط خيرًا حتى هذه اللحظات؛ فأحداث الهجوم على الكنائس تتزايد، وكذا عدد الشهداء الأقباط، بعدما تم إلصاق الكثير من التهم زورًا، مثل مساندتهم للفريق شفيق في الانتخابات الرئاسية، وأحداث الاتحادية، ومشاركتهم في كل المليونيات التي تُجرى ضد النظام الجديد.
وأخيرًا، ظلت الدولة تتجاهل مبدأ المشاركة السياسية للأقباط؛ حتى لا تفتح على نفسها بابًا لا تستطيع إغلاقه، وآثرت الانفراد بالمواجهة، شأنها في ذلك شأن كل القضايا الكبرى التي انفردت بمعالجتها بمعزل عن الشعب.
وأعتقد أنه بعد ثورة 25 يناير لن يسمح الشعب بأن ينفرد النظام بوضع تصورات مستقبلية لحل مشاكله بمعزل عنه؛ لأن الشباب الذي خرج بالملايين في الثورة يريد أن يكون شريكًا في الحكم، عن طريق تحقيق الرقابة الجماهيرية على الحاكم، بغض الطرف عن اسمه أو شكل نظام الحكم القائم.