الأربعاء 04 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

تأملات في نظرية التوك توك!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم يعد «التوك توك» مجرد عنوان للعشوائية فى الشارع المصرى، فقد تحول إلى نظرية ومنهج حياة وسلوك عام يحكم طبيعة حركة المجتمع.
صحيح أن نظرية التوك توك ليست جديدة على المجتمع المصرى؛ فقد كان لها بعض المظاهر فى العقود والسنوات التى سبقت أحداث يناير ٢٠١١، إلا أنها ترسخت وأصبحت لها قواعد وأصول فى ظل الفوضى العارمة التى عاشتها البلاد عقب ما سميت بثورة يناير.
التوك توك هذا المسخ المشوه لسيارات النقل الخاص دخل السوق المصرية مع نهايات عصر الرئيس السابق حسنى مبارك، فى ظل تراجع الحرف والمهن اليدوية وعزوف الشباب الذين فشلوا فى استكمال تعليمهم عن اكتساب مهارة أو حرفة لتكون مصدر رزقهم، كما كانت تفعل الأجيال السابقة عندما كان لدينا السباك والميكانيكى والترزى والنجار، الماهر طبعًا.
وفى الواقع التوك توك كان ذروة اكتمال نظرية «الأنتخه والتناحة» وخطف الجنيه بالفهلوة بغض النظر عن مصدره، بمعنى آخر الاستسهال وعدم الرغبة فى بذل أى مجهود، ولو تذكرون سبق التوك توك بسنوات قليلة الموبايل، عندما انتشرت ظاهرة الشباب المتسكعين على نواصى الشوارع يحملون الهاتف المحمول ويبيعون الدقيقة مقابل جنيهين تقريبا، وبعد شيوع تكنولوجيا المحمول تراجع السعر إلى ٥٠ قرشا للدقيقة، ولأن هناك من يراقب جيدا ويعلم جنوح المجتمع للكسل والتنبلة، سارع إلى إنقاذ هذا الشباب من الضياع بعد انخفاض أسعار مكالمات المحمول، وفتح فرعا لتوريد التوك توك ليكون البديل الذى يدر مكاسب أكبر على صاحبه.
هذه تقريبا هى نشأة ظاهرة التوك توك فى مصر، بعد يناير ٢٠١١، شهد المجتمع حالة انهيار أخلاقى لم يجسده فقط الانفلات الأمنى، فجميعنا صرنا نخرق القانون بحجة أن يناير ثورة على كل شىء بما فى ذلك القانون والعادات والتقاليد والأعراف التى نسميها بالبلدى «الأصول». 
فكما أن التوك توك ترك الحوارى والشوارع الخلفية وراح يغزو الميادين والشوارع الرئيسية، بل وبعض الأحياء الراقية، وبالطبع كل الأحياء المتوسطة، قمنا بهجرة جماعية إلى أرض الفوضى واللامنطق والاستسهال بل والاستعباط فى أحيان كثيرة، لتتحول عشوائية التوك توك إلى نظرية حاكمة لقيم المجتمع.
وكان الجاسوس مرسى الرئيس الوحيد الذى وجه تحية لشباب التوك توك فى أحد خطاباته، كتجسيد لتماثل عشوائية الحكم الدينى مع عشوائية هذا المسخ، الواقع كلاهما مسخ، التوك توك والحكم الإخوانى، وكلاهما تعبير عن الفوضى وغياب الأخلاق وانعدام الضمير، وكلاهما تجسيد للإرهاب، فهذا يرهبك بالتكفير كى تخضع لإرادته، وهذا يرهبك بالتهديد ولا مانع عنده من أن يصدمك حتى يمر.
جاءت ثورة ٣٠ من يونيو لتعلن رفض المصريين للدولة الدينية وكل مظاهر الفوضى والعشوائية، ومع ذلك ورغم مرور ٥ سنوات، لا تزال نظرية التوك توك الحاكم الأساسى لكثير من جوانب الحياة، ولا تزال نظرية التوك توك الإخوانية تعبر عن نفسها فى بعض فتاوى التكفير الصادرة عن شيوخ وعلماء محسوبين على المؤسسة الدينية الرسمية.
ومن مظاهر تحكمها أيضا استمرار السماح لمشايخ التيار السلفى بالظهور على المنابر الإعلامية ليتحفونا بفتاوى تكفير المسيحيين المصريين وتحريم تهنئتهم بأعيادهم الدينية.
معارضة الصحفيين لمشروع قانون تنظيم الصحافة الجديد هى الأخرى تجسيد لشيوع نظرية التوك توك، فأغلب المعارضين لم يقرأوا مشروع القانون، وساروا فى ركب أصحاب المصالح المغرضة من الذين يسعون للإبقاء على السلطات المطلقة لرؤساء مجالس الإدارة، والذين يسعون لتشويه كل إنجاز باستغلال حالة الجهل العام من أجل الطعن فى مصداقية الدولة المصرية من خلال اتهام مشروع القانون بقمع الحريات وقتل مهنة الصحافة.
منهج الاستعباط فى نظرية التوك توك تعكسه أيضا حالة التذمر من ارتفاع الأسعار لا لشىء إلا لأننا نريد أن نستمر فى نفس نمط استهلاكنا غير المرشد، بينما جزء كبير من حل المشكلة يكمن فى تصحيح سلوكنا الاستهلاكى بدءا من مياه الشرب ومرورا بالكهرباء والغاز، وصولا إلى السلع الغذائية. وكنت أظن أن تطبيق الحكومة لبرنامج الإصلاح الاقتصادى سيحقق هذا الهدف؛ لأننا من الشعوب التى تستهلك احتياجاتها بكثير من السفه لكن الأمل خاب، فللأسف لم تطبق الحكومة برنامجها للإصلاح الاقتصادى وفق قواعد وآليات من شأنها القضاء على نظرية التوك توك وما تعنيه من دلالات الفوضى والعشوائية فى السوق المصرية، بأن تتخذ إجراءات لتقنين عملية البيع والشراء من خلال تحديد هامش للربح وإلزام المنتجين والتجار بكتابة الأسعار على السلع، وبدلا من ذلك لجأت إلى إجراءات استثنائية ليست فيها صفة الدوام، وتكبدها الكثير من الأموال، وفى مقدمتها قيامها هى بدور المستورد والتاجر، وهذا ما يتناقض مع تبنيها للسوق الحرة والنظام الاقتصادى الرأسمالى. للأسف النخبة السياسية التى تعارض برنامج الإصلاح الاقتصادى، اتسمت هى الأخرى بالعشوائية، وارتكزت على قاعدة الاستسهال فى نظرية التوك توك، بإطلاق الشعارات الفارغة الشتامة غالبا لكل ما تقوم به الحكومة، ولم تنتبه إلى أن هناك إجراءات وآليات أخرى بإمكانها تخفيف الآثار السلبية لبرنامج الإصلاح الذى لا غنى عن المضى فى طريقه. المؤيدون بدورهم اعتمدوا قاعدة الاستعباط، ولم يروا شائبة تشوب أداء الحكومة على الإطلاق وكأن قراراتها منزلة من السماء. مقاومة نظرية التوك توك مسألة أخلاقية بحتة، وعلينا جميعا مراجعة طريقة تفكيرنا واتخاذنا للقرارات. 
وحتى تحقق ثورة الثلاثين من يونيو الهدف منها باستعادة منظومة قيم سليمة، والهوية المصرية الرافضة للعشوائية، على الحكومة أن تراجع موقفها المتخاذل إزاء جشع رجال الأعمال والتجار، فذلك السبيل لإعادة الأخلاق للمجتمع، وعليها أخذ زمام المبادرة لتكون القدوة والمثل الذى يحتذى.