سؤال كان يطارد عقلى وأنا أتابع مباريات كرة القدم فى كأس العالم وأشاهد اللاعب العربى وهو غير قادر على المنافسة، وكأنه يعانى هزالا ويكاد يلفظ أنفاسه، بينما الأوروبى يبدو وكأنه «سوبر إنسان»، وظل السؤال يلح على خاطرى باحثا عن إجابة محددة، إذ كيف تقدم هؤلاء فى أربعمائة عام فقط، بينما نحن كعرب تأخرنا فى كل شىء، لماذا تقدموا علميا وعسكريا وسياسيا ورياضيا؟ بينما الإنسان العربى يعيش عالة على ما تنتجه المصانع الأوروبية، كيف وصلوا إلى الفضاء ووضعوا أقدامهم فوق القمر، بينما ما زلنا نحن نتساءل عن حرمة لعاب الكلب وإرضاع الكبير ونكاح الطفلة؟ لماذا اخترعوا الطائرة والسيارة والصاروخ والدبابة، بينما نعجز نحن عن صناعة القلم الرصاص؟
وحين عدت إلى التاريخ وجدت أن أوروبا كانت تعانى قبل أربعمائة عام من الآن ما نعانى نحن منه اليوم، لقد عاشوا ما يقرب من ألف ومائتى عام فى ظلام تام، فلا مجال للطب أو العلم أو الثقافة أو التحضر بشكل عام، وكان الأغنياء يستعبدون الفقراء، وعانت الشعوب الأوروبية من كوارث ومصائب لا حد لها، ويكفى الإشارة إلى أن الطاعون قد سلب حياة ثلث سكان أوروبا فى عشر سنوات فقط، تحديدا ما بين 1340 و1350 ميلادية، ويعبر مصطلح العصور الوسطى عن ألف ومائتى عام، التى عاشت فيها أوروبا هذه الحياة البائسة، والتى بدأت بانهيار الإمبراطورية الرومانية حين أعلن قيصر روما قسطنطين اعتناقه المسيحية فى القرن الرابع الميلادي، وقرب منه رجال الدين وتنازل عن جزء من صلاحياته لهم، حتى صاروا يتحكمون فى كل شيء، ولأن مفهومهم للدين كان خاطئا؛ فقد حرموا العلاج والطب لأنه ضد إرادة الرب الذى جعلك تمرض، وحرموا العلوم القديمة لأنها نتاج الوثنية اليونانية والرومانية، وحرموا الحسابات الفلكية والهندسية والفلسفة وحرقوا جميع كتب التراث وشكلوا محاكم تفتيش، وأظن أن اسمها يدل على وظيفتها، فالمحكمة تقتحم البيوت وتفتشها؛ فإذا وجدت كتابا لأرسطو أو أفلاطون أو كتابا فى الطب أو الهندسة تقوم بمصادرته وحرقه ومعه صاحب البيت، وهو المشهد الذى رأيناه فى مقدمة فيلم «المصير» للمخرج الراحل يوسف شاهين، هكذا كانت أوروبا فتأخرت كثيرا، وكان الجذام منتشرا بين الناس، وحوادث القتل والنهب لا تحصى ولا تعد، وحرّم رجال الدين الفن وحطموا التماثيل وحرقوا اللوحات وحاكموا العلماء؛ فانتهت أوروبا إلى ظلام دامس لسنوات طويلة حتى أفاقت من هذه الغيبوبة فى القرن السادس عشر، أى منذ حوالى أربعمائة عام فقط، وذلك عندما أدركت هذه الشعوب أهمية العلم وضرورة الفصل بينه وبين الدين، فالدين هو علاقة بينك وبين ربك، وأما الدولة فتدار وفق قانون يطبق على الجميع ولا سبيل للتقدم إلا بالعلم الذى لا يكبل بالحلال والحرام، وبالفعل وخلال مائة عام فقط تمكن الأوروبى من الوصول إلى طاقة البخار، فاخترع القطار وماكينات المصانع وأنار الشوارع، وبعد مائة عام أخرى توصل إلى البارود واخترع المطبعة والمدفع، وأتى نابليون بهما لنفاجأ نحن بهذه الأسلحة التى يستخدمونها فى الوقت الذى حاربناه نحن بالسيف والخنجر، ولم نكن ندرك معنى المطبعة، وبعد مائة عام ثالثة صنعوا السيارة والتليفون، ثم دخلنا مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إلى ما لا يتخيله عقل، فاخترعوا السينما والتليفزيون وأجهزة الأشعة والأدوية والطائرة وكل شىء تقريبا، ووصلوا الآن إلى اختراعات تفوق قدرة العقل على الاستيعاب كالريبوت الآلى الذى اخترعوه وصدروه لنا، فتساءلنا: هل نكاح الريبوت الآلى حلال أم حرام، وهل يجوز للرجل المسلم أن يختلى بريبوت أنثى أم لا بد من وجود محرم؟ إننا يا سادة نعيش فى عصورنا الوسطى ولا سبيل لتقدمنا إلا بالعلم، فهذا ما فعلته أوروبا فأصبحت على ما هى عليه الآن.