الشك هو نقيض اليقين، وهو وسيلة لمعرفة الحقائق، وعلى خلاف ما يعتقد كثيرون أرى أن الشك نعمة وليس نقمة، ميزة وليس نقيصة، فضيلة وليس رذيلة. وحين أستخدم لفظ «الشك» فإننى أعنى به «الشك المنهجي» الذى نتخذه طريقًا من أجل الوصول إلى الحقيقة، وليس «الشك المطلق» الذى يبدأ ويستمر دون أن ينتهي، ذلك لأننى أرفض الشك الذى يُبحر بصاحبه فى محيطات لا مرفأ لها. إن الشك الذى أقبله وأدعو إليه، هو ذلك النشاط العقلى الفاحص لكل الأقوال والأفعال، والناقد لكل الأشياء والأشخاص، شك يدفع صاحبه ألا يقبل شيئًا بوصفه صحيحًا إلا إذا ثبت - بوسيلة أو أخرى - أنه صحيح بالفعل، وألا يثق فى شخص بوصفه أهلًا للثقة، إلا إذا دلت سلوكيات وأفعال، وليست مجرد أقوال، هذا الشخص على أنه جدير حقًا بهذه الثقة.
كوارث كثيرة حلت بنا على المستويين - الشخصى والعام - لأننا منحنا الثقة المطلقة لأشياء وأشخاص ومواقف ومعتقدات زائفة. إن التريث من أجل الفحص والتدقيق فى حقيقة المواقف والأحداث يساعدنا كثيرًا على اتخاذ قرارات صائبة. وليسأل المرء نفسه: كم من المرات أعطى ثقته الكاملة لمن لا يستأهلها؟ وآمن واطمأن واستأمن من لا أمان له؟ وكم من المرات غيبت عقله الأقوال المعسولة وخدعته المواقف الزائفة؟ على المرء أن يسترجع المرات التى ظل يعض فيها بنان الندم، وتعتصر قلبه الحسرة، ويمزقه الندم لأنه لم يستخدم عقله، ولم يبصر ويتبصر.
مرة أخرى نعود ونؤكد أن هذه ليست دعوة إلى الشك المطلق فى كل الأشياء والأشخاص والمواقف بقدر ما هى دعوة إلى النقد والفحص وإعمال العقل والنظر إلى الأشياء وكأننا نراها لأول مرة، فننتبه إلى كل ما كنا نمر عليه فى حياتنا مرور الكرام، نسلم به بحكم العادة والألفة، ونقبله على أنه صحيح وسليم، فى حين أننا لو استعنا ببعض الشك لأدركنا مدى غفلتنا، وانتبهنا إلى أمور ووقائع ما كان من الممكن أن نفطن إليها لولا تشككنا فيها.
نحن نقبل، فى معظم الأحيان، الإدعاءات - خاصًة المتعلقة بوقائع وأحداث - على أنها حدثت بالفعل. فعلى سبيل المثال إذا قرأنا فى الصحف عن حادث تحطم طائرة، فإننا نفترض أن هذا الحادث قد وقع بالفعل، ولا نتشبث بالقول الذى يذهب إلى أن هذا الزعم المتعلق بتحطم الطائرة هو زعم باطل لمجرد أننا لم نشاهد سقوطها بأنفسنا. كما أننا نسلم بصحة نتيجة مباراة فى كرة القدم لم نشاهد وقائعها بين كوريا الجنوبية وألمانيا، رغم أن النتيجة تقرر هزيمة ألمانيا التى نشجع فريقها. ونحن نتابع أيضًا باهتمام بالغ توقعات الطقس، الذى يتنبأ خبراؤه: بأنه سوف تسقط أمطار غزيرة غدًا، ونخطط وفقًا لذلك، نحن لا نتجاهل ذلك لكونه مجرد تنبؤ، والتنبؤات ليست وقائع.
ما نود قوله هو أن الصدق والثقة أمران على جانب كبير من الأهمية. ففى معظم الأحيان، يحتاج الإنسان لمن يعتمد عليهم فى أن يخبروه بالحقيقة، وهناك على الجانب الآخر، إنسان يسرد وقائع معينة وينبئنا بها، ويتمنى أن يجد أناسًا يستمعون إليه، ويثقون فى صدق أقواله. إن الثقة المتبادلة بين الناس مطلب اجتماعى بالغ الأهمية، غير أن ذلك لا يقتضى بالضرورة أن نقبل كل شئ - نقرأه أو نسمعه - قبولًا أعمى.
لا يمكننا التسليم بصدق كل شئ لمجرد أننا تحققنا من صدق خبر ما كتبته صحيفة أو صدق حادثة معينة وردت فى نشرة الأخبار أو غير ذلك. فكم من الأكاذيب صنعها الناس ليس فقط بغرض الخداع من أجل تحقيق مصلحة، ولكن قد يكذب الإنسان دون قصد أو عن جهل أو بحسن نية بغرض المبالغة أو التبسيط أو التقريب أو حتى التخمين الفج. منذ عدة قرون كان الاعتقاد السائد بين البشر هو أن سطح الأرض مستويًا، وكان هذا أمرًا طبيعيًا، لأن سطح الأرض كان يبدو أمام حواسنا مستويًا.
غير أن بعض الناس شاهدوا واقعة أثارت انتباههم، وهى أن السفن حين تبحر وتتجه بعيدًا تبدو وكأن البحر يبتلعها تدريجيًا، إلى أن تختفى تمامًا عن الأنظار. نقول تبدو وكأن البحر قد ابتلعها، أو تبدو وكأنها قد غرقت تمامًا. وعلى العكس حين تكون السفن عائدة إلى أرض الوطن، فإنها تبدأ فى الظهور تدريجيًا من بعيد فى البحر، جزء صغير وضئيل منها فقط هو الذى يظهر، ثم يتوالى ظهور بقية الأجزاء، إلى أن ترسو السفينة على الشاطئ مرة أخرى. لقد برهن البعض استنادًا إلى هذه الملاحظة وغيرها على أن سطح الأرض لا يمكن أن يكون مستويًا بل محدبًا.
وأدرك الإنسان أنه لو كان سطح الأرض مستويًا، لما اختفت السفن أبدًا مهما بعدت، قد تصغر وتصغر، حتى تصبح أصغر من أن تُرى بالعين المجردة، ولكنها لن تختفي، إن اختفاءها دليل قاطع على أن سطح الأرض ليس مستويًا، ومن هنا بدأ السعى لاكتشاف كروية الأرض.
كان للشك فضل كبير فى التوصل لكشوف علمية كثيرة وعظيمة، فهو يدفع المرء دفعًا لاختبار الآراء السائدة، وإعادة فحصها، الشك يجعلنا لا ننقاد للآراء والمعتقدات التى نسلم بصحتها بحكم الألفة والاعتياد، إنه يصون العقل ويجعله لا يقبل إلا ما يبدو له مقنعًا ومستندًا إلى أسس علمية وعقلية متينة. ليس معنى هذا أن يقف المرء موقف العناد المتعمد من كل ما هو شائع، بل الشك يعنى اختبار الآراء الشائعة وإخضاعها للفحص العقلى الدقيق، لتمييز ما هو صحيح عما هو باطل، والتمسك بالصحيح ونبذ الباطل.
إن الأنبياء والرسل والمصلحين وقادة الفكر والمبدعين من المفكرين والعلماء، اتخذوا من الشك أداة ترشدهم للحقيقة، إن تشكك سيدنا إبراهيم فى آلهة عصره هو الذى أوصله إلى الإيمان بالله، كما أن رفض سيدنا محمد وتشككه فى الأصنام التى عبدها أهل قريش، هداه إلى الحق، وإن نسينا فلن ننسى أن تشكك «كوبرنيقوس» و«كبلر» و«جاليلو» فى سلامة النظرية السائدة فى عصرهم التى كانت تقول بثبات الأرض ودوران الشمس حولها، هو الذى مكنهم من التوصل إلى نظرية مركزية الشمس ودوران الأرض حولها وليس العكس، بقى أن نقول إن تشكك «فرويد» فى النظريات السائدة فى عصره مكنه من وضع أسس علم النفس. وهكذا يحفل تاريخ الإنسانية بإنجازات رائعة على أيدى عظماء كانت لديهم جسارة الشك فيما هو سائد ومألوف.