تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
مهمة المحافظين الجدد لا تبدأ فقط بانتهاء مراسم أداء اليمين، فهى حركة تفرضها قواعد الدستور وصاحب القرار فى الاختبار هو رئيس الدولة لأن كل منهم يعتبر الممثل الدستورى له داخل حدود المحافظة، لكن واجب الأمانة يقتضى أن أنادى باعتبار هذه الحركة بداية لنهضة تنموية جديدة على أرض مصر من خلال آلية إدارية منضبطة بحيث لا تحتاج الأمور إلى إطلاق شعارات مثل البحث عن القرى الأكثر فقرًا أو الاهتمام بمناطق الجنوب التى فاتها قطار التنمية، أو نظام الأقاليم المتكاملة أو أن محافظات بعينها سقطت سهوًا أو عمدًا من قوائم الاستثمار، ولايمكن أن ننكر أن هناك خللًا فى معادلة توزيع الثروة القومية على المحافظات مما جعلها معادلة مبتسرة انعكست على الأداء المحلى لكل محافظة فأصبحت هناك محافظات للشمال وأخرى للجنوب.
ومواجهة هذا الموقف والخلل لا يكفى فقط بزيادة الموارد أو الاعتمادات أو المشروعات أو الميزانيات لكن الأهم من كل ذلك هو تعطيل نص دستورى منذ تطبيق فلسفة الحكم المحلي، ثم أصبح الإدارة المحلية ثم التنمية المحلية ثم أمانة الحكم المحلى أو مجلس المحافظين، والنص هو العمل على دعم فلسفة الإدارة الذاتية للأقاليم ذلك لأن النظم والقوالب التى اتبعت هى مجرد استبدال نظام المديريات التى كان يرأسها دائمًا ضابط شرطة فى درجة محافظ فيما عدا مديرية واحدة مازالت تحتفظ بهذا الاسم حتى الآن هى (مديرية التحرير)، والتى تأرجح الإشراف عليها ما بين محافظتى البحيرة والمنوفية وتصور صانعو هذه الفلسفة أن هذا هو غاية ما تستهدفه فلسفة الحكم الذاتى للمحافظات خاصة وأنهم ألغوا النظام المرجعى وهو نظام البلديات، وكانت وزارة الشئون البلدية والقروية هى التى كانت تقوم بمهمة الإشراف عليها وهى التى تفككت لتصبح الحكم المحلى والإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية الجديدة، واعتمدوا فى بداية التجربة على كوادر لها كاريزما بدأت بمحافظين أقوياء منهم الصف الثانى للثورة والشرطة مثل صلاح الدسوقى بالقاهرة وصديق عبداللطيف ثم حمدى عاشور بالإسكندرية ووجيه أباظة للبحيرة ومحمد متولى للمنوفية وعمر سعفان للغربية وعبد السلام خفاجى للشرقية وإبراهيم بغدادى لكفر الشيخ ومحمد زكى للإسماعيلية ومحمد البلتاجى للجيزة، وغيرهم من المحافظين الذين كانوا يستمدون سلطتهم من قوة الثورة وليس من خلال تشريع سوى تشريع هش، وكانت هذه المسئولية تتبع أحيانًا حسين الشافعى أو كمال الدين حسين، والمجتمع المصرى نظر إلى هذه التجربة بكل جدية وحماس لكن مع حدوث متغيرات سياسية وإنسانية.
بذل المحافظون جهودًا تفوق طاقة البشر لكن فوجئوا بالمركزية الطاغية فى كل شئ، وأن وجودهم وجود ديكورى لدرجة أن محافظًا قوًيا وبحجم حمدى عاشور لم يخف شعوره حين أعطى كل ما عنده وابتكر مشروعات غير تقليدية وبعيدة عن ميزانية الدولة ومع ذلك لم يحقق ما كان يحلم به، والأمانة أن حمدى عاشور هو الذى أنشأ شركة المعمورة السياحية باستثمارات محلية، وهو الذى بذل جهودًا خارقة فى دعم البنية الأساسية خاصة فى مجال مياه الشرب وألغى من خريطة الإسكندرية (منظر السقا) وحنفية الصدقة التى كانت إحدى مقومات الأحياء الشعبية، وهو الذى ساهم فى دعم صناعة رغيف الخبز التى كانت تشتهر به الإسكندرية وإلغاء النقل البطئ، فهى قائمة طويلة من الإنجازات ومع ذلك كثيرًا ما كان يقول باعتبارى اقتربت جدًا من تجربة الميدانية قال «أديك شايف أنا مش محافظ أنا ملاحظ» فعلًا متابعة دقيقة وحزم فى الإدارة وابتكار وحلول تقليدية لحل مشكلة الإسكان، ويقول إن الكورنيش هو هرم سياحى يجب المحافظة عليه، ولابد وأن يحقق المعادلة بحيث أن يكون مزدحمًا ومزدهرًا معًا فإذا اختلت واحدة سقطت الأخرى، واستطاع حمدى عاشور أن يرفع كفاءة منظومة الصحة بالتعاون مع كلية الطب بالإسكندرية والاعتماد على الدراسات العلمية التى يقوم بها قسم الاجتماع برئاسة الدكتور عاطف غيث حول قضايا العمل وأكثر من ظاهرة والاستعانة بجهود المعهد العالى للصحة ولاننسى جهود وجيه أباظة فى إنشاء مستشفى دمنهور على أرقى مستوى فى الوجه البحرى وكلف بإدارتها الطبيب محمد مروان، وروج لفرقة الفنون الشعبية، فكل هذا تم بالجهود الذاتية.
وفى المنوفية الدكتور محمد متولى وتجربة التسويق التعاونى للقطن وفرحتها على مصر كلها، فهذه مجرد نماذج للجهود وبداية للتجربة وجاء الجيل الثانى من المحافظين مثل أحمد كامل محافظ الإسكندرية كان يرى أن الحل فى مشاكل المحافظة يبدأ مع دعم جهود الشباب الذى تعايش معهم ووضع لهم برامج مثل النظافة وارتدى معهم أفرول عامل النظافة وتعايش مع التجربة كما أنه اقتنع بفكرة طرق باب الثقافة كأسلوب فاعل فى تفهم طبيعة العمل الميدانى، ومشاركة الناس وفعلًا فكر فى مشروع جرئ وهو الموافقة على اقتراح قدمه الشاب الفنان فاروق حسنى مدير قصر ثقافة الأنفوشى لكى يتحول القصر إلى ساحة لكى تقدم الموسيقات الرفيعة فى مقدمتها أوركسترا القاهرة السيمفونى ودخلت بنات بحرى إلى قصر الثقافة للاستمتاع بالفنون.
كل هذه جهود وعلامات لكن القضية الأصلية لم تحل وهى المركزية الشديدة وضاعف من حدوثها الخطة الخمسية فى الستينيات وما بعدها وتأثرت التنمية الشاملة بهذه القيود ووزير الحكم المحلى لا يملك إلا أحر الدعوات وأطيب التمنيات.
وإذا قيل إن هناك مثلثًا للتنمية فإن الضلع الثالث ناقص فالتنمية أصبحت تسير بمنظومة المجلس التنفيذى ثم المجالس الشعبية المحلية ومهمتها أن تكون أبواقًا للمحافظ بقدر ما يوقع على التجاوزات.
ومنتهى الأمانة أقول إن منظومة الفساد التى وصمت بها الحكم المحلى أصبحت من الأدبيات السياسية مثل ما قاله رئيس ديوان الرئيس الأسبق حسنى مبارك تحت القبة كنائب «الفساد فى المحليات أصبح للركب»، وعلينا أن نبدأ فى بناء الضلع الثالث بإعادة نظام (البلديات) مرة أخرى بحيث يتم تشكيلها لتكون حاضنة التنمية للإقليم والدستور يسمح بهذا ويمكن إجراء حوار عالمى حول إعادة هذا النظام مرة أخرى فقد عرفت الإسكندرية التجربة كثانى بلدية فى العالم بعد باريس ومازالت فرنسا تحتفظ بهذه الآلية الخصبة، والقومسيون البلدى استطاع أن يبنى الإسكندرية دون تحمل الدولة أى أعباء ولو بيرم التونسى عاد مرة أخرى للحياة لاعتذر عن هجومه على المجلس البلدى وطالب بإعادته فورًا.