إن ما يجمع بين أغلبية أبناء تيارات الإسلام السياسي هو الحلم باستعادة نموذج الخلافة الإسلامية، وفي حقيقة الأمر فقد ظل تجميع البشر تحت قيادة مركزية - تستند إلى مرجعية فكرية واحدة - أملاً يداعب الفكر الإنساني منذ بداية التاريخ، ولم يكفّ البشر عن محاولة تحقيق هذا الحلم حتى يومنا هذا، سعياً إلى تجسيد عالم مثالي نموذجي ينعم البشر في ظله - إذا ما تحقق - بأقصى قدر من الرفاهية والسعادة.
ويفيض التاريخ البشري بما لا حصر له من بحور الدماء التي سالت لتجسيد مثل ذلك الحلم على الأرض في صورة الدولة العقائدية، أي تلك الدولة التي تقوم على تصور نظري مسبق اكتملت صياغته من قبل، وتظل الدولة ملتزمة بها أو تحاول ذلك خلال ممارستها العملية لدورها، ومع أن الحلم بعالم أفضل هو القوة المحركة لأي تقدم إنساني أو تغيير اجتماعي، فإن الأمر يصبح مأساة حقيقية حين تتحول الدعوة إلى تحقيق ذلك العالم المثالي المنشود، من الكلمة والإقناع إلى القهر والإجبار، ومحاولة دفع البشر قسراً وسوقهم بالسلاسل إلى تلك الجنة الموعودة.
ويشهد عالمنا المعاصر تزايداً ملحوظاً لأفكار وممارسات ترفع رايات ذلك الحلم القديم بتوحيد العالم: الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى توحيد العالم أو عولمته، ولو اقتضى الأمر خوض حروب دامية، كما نشهد تصاعداً لجماعات إسلامية يتمثل هدفها البعيد المعلن - منذ انهيار دولة الخلافة العثمانية - في السعي إلى إقامة "الدولة الإسلامية"، التي قد تختلف الرؤى وتتباين حول تفاصيل ملامحها، ولكنها تتفق على كونها دولة عقائدية عالمية ذات قيادة مركزية.
ولعلّه من المناسب - والأمر كذلك - أن نعرض في عجالة لأهم نموذجين تاريخيين في هذا المجال، كانا كلاهما تجسيدا لمفهوم الدولة العقائدية، مع أنهما يقفان على طرفي النقيض من حيث المنطلقات الفكرية: دولة الخلافة الإسلامية، ودولة الاتحاد السوفيتي الماركسية، وأوجه تناقضهما الفكري غنية عن البيان، أما أهم أوجه التشابه فتتمثل في ما يلي:
* أولاً: العالمية
شهد تاريخنا الإسلامي منذ حقبة مبكرة جدلاً فكرياً شديداً حول تحديد معالم هوية المسلم الحق، التي تميز بينه وبين غيره، فهل يكفي الاقتناع والتسليم أم أنه لا بدّ من بيعة وجهاد ودولة وخليفة؟، وهل يمكن الاكتفاء بإقامة دولة إسلامية في حدود قطر واحد فحسب؟، أم أنه ينبغي السعي لتشمل مظلة الخلافة البشر جميعاً؟، وهل الانتماء الإسلامي ينبغي أن يتخطى حدود الانتماء القومي؟، واستند المتجادلون جميعاً إلى فهمهم لنصوص الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة.
وكان الأمر شبيهاً بذلك في ما يتعلق بالماركسية السوفيتية، التي انطلقت من أرضية مناقضة للديانات السماوية، إذ واجهت أسئلة شبيهة: فهل يكفي الاقتناع بالفكر الماركسي أم أنه لا بد من التنظيم الشيوعي والسعي للسلطة؟، هل يمكن إقامة هذه السلطة في حدود دولة واحدة؟، أم أن المطلوب هو استمرار الثورة إلى أن ينجح عمال العالم في إقامة دولتهم العالمية؟، هل الالتزام الماركسي ينبغي أن يتخطى حدود الالتزام القومي؟، واستند الجميع إلى فهمهم وتأويلهم لما قال به المؤسسون الكبار للنظرية.
* ثانياً: وحدة مركز القيادة
أقام الماركسيون تنظيماً أممياً عالمياً، اتخذ من موسكو مركزاً لقيادة عملية التوحيد، وكان منطقياً أن تكون لـ "الكرملين" الكلمة العليا في ذلك التنظيم الأممي، وفي اختيار قادته وممثليه في العالم، ولم يكن ذلك أمرا مستغربا باعتبار أن الانتماء إلى الماركسية يعلو غيره من الانتماءات القومية "الشوفينية".
وفي المقابل، فقد تمثّل السعي الإسلامي في إقامة دولة الخلافة الإسلامية التي تنقلت مراكز قيادتها بين مكة ودمشق وبغداد والقاهرة.. إلخ، ولم يكن حكام أقاليم الخلافة الإسلامية من مسلمي الأقاليم المفتوحة طوعاً أو غصباً، بل من أصحاب الفتح - عرباً كانوا أو أتراكاً - ولم يكن ذلك بالأمر المستغرب، باعتبار أن الانتماء إلى العقيدة الإسلامية يعلو على غيره من الانتماءات القومية "الشعوبية".
* ثالثاً: الاتهامات بالزندقة والمراجعة
في ظل الحرص على وحدة الدولة العالمية فكراً وممارسة، لم يكن هناك بُدّ من التصدي - بمنتهى الشدة التي تصل إلى حد القتل - لمن يهدد تلك الوحدة، ومن ثمَّ انهالت الإدانات بالمراجعة والردّة والخيانة، بل والعمالة أحياناً، ضدّ كل من يخرج على التأويل الرسمي السوفيتي المعتمد للنظرية الماركسية، محاولاً تفتيت وحدة الصف الشيوعي، كما انهالت إدانات مماثلة بالزندقة والردّة والتحريف ضدّ كل من يخرج على التأويل المعتمد من مقرّ الخلافة للقرآن الكريم والسنة المطهرة، وطالت تلك الاتهامات من كانوا يحتلون مراكز الصدارة في المشهد الماركسي، من: كاوتسكي وتروتسكي إلى ماو تسي تونج إلى تيتو وجارودي، ولم تختلف تلك الاتهامات في جوهرها كثيراً عن تلك التي وجِّهت إلى العديد من رموز الفكر وقادة العمل الإسلامي.
لقد انهار الاتحاد السوفيتي، وانهارت كذلك دولة الخلافة، ولكن الأحلام والآمال ما زالت قائمة.