تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
استكمالًا لما بدأناه فى الأسبوع الماضى عن عيد الجلاء والذى كانت تحتفل به مصر منذ عام 1956، وكان يوم عطلة فى البلاد ثم أُلغى هذا الاحتفال تدريجيًا منذ منتصف التسعينيات حتى بات الشعب لا يعلم شيئًا عن هذا اليوم المجيد الذى غادر فيه آخر جندى إنجليزى أرض مصر بعد احتلال دام لأربع وسبعين سنة حيث بدأ فى سبتمبر 1882 وانتهى فى 18 يونيو 1956.
وفى المقال السابق استعرضنا المواقف المعلنة والأسباب التى أدت إلى دخول بريطانيا العظمى الأراضى المصرية واحتلالها وعدم إكتراث الخلافة العثمانية بما حدث فى بلد من أهم بلاد الخلافة، فلم يجهز الخليفة العثمانى جيشًا لمحاربة الإنجليز وإخراجهم من مصر، وإنما عقد اتفاقية معهم يضمن بموجبها وصول الخراج إلى الباب العالى فى الاستانة، والخراج هو حصة مالية وعينية من المحاصيل الزراعية حددتها السلطنة العثمانية لكل دولة احتلتها وفرضت على حكومتها المعينة - بقرار منها - إرسال تلك الحصة سنويا إلى تركيا وبضمان هذه الحصة أو هذا الخراج السنوى اقترضت الحكومة التركية من البنوك الأوروبية نهاية القرن التاسع عشر قرضًا لتجهيز الجيش للحرب الروسية، وظلت مصر تسدد هذا القرض حتى عام 64، ونعود إلى الاحتلال الإنجليزى والذى لاقى ترحابًا شعبيًا فريدًا ومدهشًا فى بادئ الأمر، وذلك أن الآلة الإعلامية لنظام الخديو توفيق كانت قد رسخت فى أذهان الناس أن المارق عرابى وأصحابه يريدون خراب البلاد والانقلاب على الحاكم الشرعى، وأن ما يحدث من فتن بالاسكندرية بين المصريين والأجانب إنما تعود لضعف شخصية عرابى وعدم خبرته السياسية، فتوفيق قد أصدر أمرًا لعرابى باعتباره وزير الحربية بالتصدى والقضاء على فتنة الاسكندرية، لكنه فشل فى تحقيق ذلك، وعندما أراد توفيق عزله أثناء هذه الأحداث رفض عرابى ولم يمتثل للقرار حتى دخل الإنجليز مصر فصدرت الصحف فى اليوم التالى معلنة عن بشرى للمصريين بانتهاء الفتنة ودخول الانجليز مصر للقضاء على عرابى الخائن، وأقام توفيق حفلًا لقادة الاحتلال داخل القصر، وكان المعلن أن بريطانيا العظمى جاءت للقضاء على فتنة عرابى وإعادة الاستقرار إلى الوطن وأن الأمر سينتهى خلال عدة أسابيع، لكن هذه الأسابيع امتدت لعقود من الزمان، ووصل الأمر إلى حد إعلان الحماية البريطانية على مصر فى 18 ديسمبر 1914 حيث أصبحت مصر محمية بريطانية، وكان نص هذا القرار التاريخى هو «يعلن ناظر الخارجية لدى جلالة ملك بريطانيا العظمى أنه بالنظر إلى حالة الحرب التى سببها عمل تركيا فقد وضعت مصر تحت حماية جلالته وأصبحت من الآن فصاعدا من البلاد المشمولة بالحماية البريطانية وبذلك انتهت سيادة تركيا على مصر» وحين تفتش بين سطور التاريخ عن ظهور الحركة الوطنية المعترضة على الاحتلال فإنك ستذهل حين تعلم أن أول ظهور للحركة الوطنية المصرية كان فى عام 1906 حين بدأ مصطفى كامل يكتب عن المسألة المصرية من خارج البلاد ثم يتصدى لحادث دنشواى فاضحًا الممارسات الإنجليزية مع المصريين، هنا فقط بدأ الضمير الوطنى فى الاستيقاظ، وبدأ الحديث عن رحيل الإنجليز أو الاستقلال، تلك الكلمة التى لم نسمع عنها قرابة ربع قرن من الزمان، وهذا ولاريب يحسب للزعيم الوطنى مصطفى كامل الذى بعث هذه الروح فى نفوس شباب الأمة بعد سنوات من الاستسلام والسكون، وحمل محمد فريد من بعده لواء الوطنية فعلت الأصوات بنداء الاستقلال التام أو الموت الزؤام، ونموت نموت وتحيا مصر، وخرجت مظاهرات الطلبة فى الشوارع، وظلت مصر حبلى بالثورة حتى انفجرت فى مارس 1919، حيث تجمع الشعب حول سعد زغلول وفوضوه بإنهاء هذا الاحتلال ولكن ظلت بريطانيا تقاوم هذه الموجة الوطنية، تارة بالقتل والنفى والسجن والتشريد، وتارة بتقديم الرشاوى والرتب والمناصب، ولكن بقى الأمر على ما هو عليه حتى توصل الزعيم مصطفى النحاس لاتفاق مع الإنجليز وقعه عام 36 وهو المعروف بمعاهدة 36 والتى قضت بخروج الإنجليز من مصر وبقائهم فقط فى مدن القناة حيث كان الغضب الشعبى قد وصل إلى ذروته وكان الإنجليز يعانون من حالات الاغتيال شبه اليومية والتى كان ينفذها الشباب الوطنى المخلص لبلاده، فأدرك الإنجليز أن استمرارهم فى القاهرة والمدن العامرة يمثل خطورة على حياتهم، وامتدت الحركة الوطنية إلى داخل الجيش المصرى وكون جمال عبدالناصر ورفاقه مجموعة أطلقت على نفسها الضباط الأحرار والتى تمكنت من السيطرة على البلاد فى صباح 23 يوليو 52 وأجبرت الملك فاروق على الرحيل، وبدأ النظام المصرى الجديد فى مفاوضات جدية مع الإنجليز انتهت بمعاهدة الجلاء فى 54 والتى وقعها الرئيس جمال عبدالناصر وبموجبها خرج الإنجليز من مصر على مدار عامين وأنزل العلم الإنجليزى من فوق آخر معسكر إنجليزى فى بورسعيد وخرج آخر جندى من جنود الاحتلال البريطانى فى 18 يونيو 56 وهو اليوم الذى يجب أن تعود الدولة للاحتفال به من جديد ويجب على الإعلام أن يحكى للمصريين عن مآسى الاحتلال وكيف كانت مصر بلا إرادة لسنوات طويلة، فالملك يتم تعيينه بموجب قرار من ملك بريطانيا وأحيانا من وزير خارجيتها والوزارات تأتى على هوى الإنجليز، وأما الانتخابات فكانت صورية وكان العمد والمشايخ يسودون البطاقات لصالح البشاوات، كان الوطن غائبا وعاد بعد ثورة يوليو والتى يهاجمها بعض الجهلاء الذين يريدون تصفية حسابات تاريخية مع جيش مصر العظيم، والذين يتغنون بحكم الملك فاروق والذى كان إمعة فى يد المندوب السامى البريطانى ومن منا لا يتذكر كيف حاصرت القوات الإنجليزية قصر عابدين وأرغمت فاروق على تغيير الوزارة فى 1942؟