عادة ما أتعامل مع أخبار وفاة الغرباء بشكل عادى لا يخلو من البساطة، ودائما ما أزيح الموت إلى حيز السَّفَر لمن تجمعنى بهم صلة نفسية، تأجيلا لصدمة غيابهم الأبدي، وهربا من استيعاب ما لا أطيق من الألم، لكن خبر وفاة اللواء باقى زكى يوسف، أصابنى بالصدمة، خبر معتاد عن بطل من أبطال أكتوبر وأحد رموزها أيقظني، وردَّ ذاكرتى مباشرة إلى عدد من الشباب فى لقاء تليفزيونى فى الشارع، سألهم المذيع سؤالا واحدا، وهو: «تعرف إيه عن ستة أكتوبر؟»، قال له أحدهم: كوبري!، وقالت شابة: جامعة ستة أكتوبر، وقال آخر: مدينة ستة أكتوبر، وقال واحد: حرب أكتوبر، ولم يذكر أى تفاصيل.
كانت وجوههم هادئة مبتسمة، وأصواتهم خالية من السخرية، ما يوحى بتغييب كبير لتأثير تاريخ انتصار أكتوبر، تفاصيل الدم والنار والشهداء ومعنى كلمة عدو بل وتوصيفه أيضا، ربما يقول البعض إن عدة شباب شاهدتهم على الشاشة غير ذى دلالة.. أنا معكم لكن الأمر يتعدى فى تراتيبه مجرد عدد من الإجابات العابرة.. حين ننظر إلى بيوتنا ونسأل أطفالنا عن أبطالهم ورموزهم، فلن يكونوا سوى بن تن، وسبونج بوب، وعائلة جامبل، والأكبر سنا ربما يكون سوبرمان أو بات مان، أما البنات فستكون الميرى ميد. والمشاغبات منهن ستخترن الجاسوسات ومغامراتهن، يمتد الحبل إلى السن الكبيرة ليصدمنا مصاصو الدماء والمتحولون والموتى الأحياء، هذا كله بدرجات أو جزء منه هو ما يقدم لأطفالنا، هو ما يبنى شخصيتهم، هذا كله أو جزء منه بدرجات هو ما يشكل اهتمامهم وما يبنون عليه آمالهم ويحددون من خلاله شكل مستقبلهم ونوع طموحهم، فكيف نحافظ على نسيجنا الاجتماعى وملامحنا المصرية التى تميزنا وسط هذه الفوضى؟ والسؤال الأهم هو إلى أى كارثة سيأخدنا هذا الاغتراب؟ كيف ستجمعنا ثقافة واحدة وثقافتنا يتم تجريفها منذ عقود حتى تآكلت واهترأت، وسمحت لثقافات أخرى أن تحل محلها بدرجات. لست ضد مواكبة العصر وآلياته، ولكنى ضد ترك الحبل على الغارب سياسة التلقى البليد، نفتح الشبابيك للنور، ولكن العاقل هو من لا يسمح لحرارة هذا الضوء أن تصل إلى درجة الاشتعال فنحرق البيت كله، ونعيش فى العراء، من هنا أتساءل عن دور الدولة فى التخطيط لمستقبلها عن خطط الثقافة لمواجهة آثار هذا الغزو، لا أقول مواجهة الغزو لأنه صار ضيفنا الدائم الذى يمرح عندنا ونحن مشغولون عنه، أو فرحون به تحت دعاوى التحضر أو منغمسون فى تأليه كل ما هو مستورد فاقدين للثقة فى كل ما نصنع فى بلدنا منبتى الصلة بماضينا.
لعل خبر وفاة هذا الرمز الذى هدمت فكرته خط بارليف وأسطورة العدو الذى لا يقهر يكون قبسا آخر من نوره يذكرنا بأن الأوطان تنتصر بالأفكار وتهدم أيضا بالأفكار، وأننا فى حرب لا تنتهى تتخفى فى أشكال مبهجة يتم تعليبها وتصديرها ببطء وعلى مدى عقود تكبر خلالها أجيال من شبابنا نكاد لا نعرفهم ولا يعرفوننا، وجه واحد من الصورة يتم تصديره لمجتمعنا، فهل نعرف شيئا عن وجههم الآخر وقوانين التربية، من مواعيد للنوم والاستيقاظ وعدد ساعات مشاهدة التليفزيون أو استخدام الكمبيوتر ونوعية التليفونات المسموح بها، ومصروفهم الأسبوعى ونوعية الهدايا التى يقدمونها لهم، هل نعرف كيف يعززون قيمة الانتماء لبلادهم منذ رياض الأطفال، ويعملون على إعمال عقولهم بالعصف الذهنى وتنمية الخيال وإعلاء قيمة العمل والاعتماد على النفس لاستكمال دراستهم الجامعية، نحن فى حاجة إلى أن ننظر من جميع الأوجه لأن الحياة لم تعد ذات بعدين صارت مجسمة ملونة وربما ساحرة تربط بين الحقيقة والخيال بنفس الدرجة مثل عروض الهولوجرام.
فليرحم الله اللواء باقى زكى يوسف بطلا مصريا وطنيا، مهندسا ومفكرا وليرحمنا الله إذا لم نسمع الأجراس لنصحو من نومنا الطويل.