تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
الدكتور جمال حمدان العبقرية المصرية الراسخة فى عمق الجغرافيا والتاريخ، ترك لنا الوصية الواجبة، لم تكن تراثًا لكنه ترك لنا «شخصية مصر» وعبقرية المكان ووضع البلد فى أعناقنا.
جمال حمدان أيها العبقرى هذه هى رؤيتك حول ما أسميه منطق الطبيعة والشريعة الجغرافية، أيها العبقرى الذى مر على رحيلك ربع قرن ولم يتذكره أحد ولم نسمع عن أمسية فى الجمعية الجغرافية المصرية أو المجلس الأعلى للثقافة خاصة لجنة الجغرافيا أو مكتبة الإسكندرية التى تمثل بيت المفكرين فى مصر والعالم.
ربع قرن مرت على رحيلك يا من وثقت بالبرهان العلمى حقوق مصر التاريخية فى نهر النيل فهى حقوق طبيعة، لأن مياه النهر تتجه إلى مصر فى النهاية كظاهرة طبيعية، وقد قامت عليها فى مصر حياة بشرية كاملة قبل أن تعرف المنابع العليا فى أى صورة، وهى بهذا حق مكتسب شرعًا وجغرافى يعترف به القانون الدولى والشريعة الجغرافية معًا، وقد اعترفت بحقوق مصر التاريخية هذه مياه النيل حتى اتفاقية 1929 بين مصر وبريطانيا، وأعادت تأكيدها اتفاقية 1959 بين مصر والسودان وإذا كان كاتب مثل بومان يقول عن مصر، «إن عليها أن تستورد الماء من المرتفعات الجنوبية تمامًا كما على إنجلترا أن تستورد غذاءها من وراء البحر»، فإن هذا قياس مع الفارق، الفارق بين الملكية الذاتية المطلقة وبين مجرد التجارة المتبادية أن تهددها أن تنال منها، فمن ناحية لا تعتمد مصر على مصدر أساسى واحد للمياه ولكن على مصدرين، هضبة البحيرات وهضبة الحبشة، ثم إنهما مصدران تبادليان وإن كانا متكاملين فهى لا تعتمد عليهما فى فصل واحد، ولكن فى فصلين مختلفين كل فى موسم على التبادل الاستوائية لمياه الرى الصيفى والحبشة الموسمية لمياه الرى الشتوى بعد الفيضان، وهذا كله يخفف من درجة اعتمادها على أحد بعينه، ومن إمكانية تسلطة على مصالحها، وإذا كانت قضية البحيرات كمصدر تعد ثانوية، وذلك بسبب حاجز السد الذى يضيع معظم مياهه، فإن ذلك فى حد ذاته يحد من أمكانيات سيطرة دولها على هذه المياه.
وأوضحت أيها العالم هذا الأمر منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وكأنك تعيش معنا هذه الأيام وتشهد المواقف على الساحة حاليًا.
قلت يادكتور جمال...
إن هضبة البحيرات بفضل جغرافية بحيراتها موطن أكبر وأضخم خزانين ممكنين على النيل جميعًا من بين كل مشروعات التخزين المستمر وهما فيكتوريا والبرت.. فسعة الأول نحو 200 مليار متر مكعب وسعة الثانى 155 مليارا، الأولى بفضل مساحتها العظيمة التى تمكن لهذا الحجز الهائل بخزان منخفض للغاية فى الارتفاع كما فى التكاليف، والثانية بفضل عمودها الأخدودى الشديد الذى يجعلها كالخندق المائى المثالى ويقلل الفاقد إلى أدنى حد، وبالمثل بالنسبة إلى هضبة الحبشة التى تعد المصدر الأساسى لمياه الفيضان، فقد انتهت الأبحاث المستضيفة لإخصائى الرى إلى أن من المستحيل فيزيقيًا أن يعترض أحد مهما حاول تدفق مياه الفيضان الكاسحة إذ يصب نفسه بالغرق المدمر والاكتساح قبل أن يصيب مصر بالجفاف، ذلك أن مياه أنهار الحبشة أثناء الفيضان تكون محملة بحمولة غزيرة من الطمى بحيث يستحيل تخزين المياه حينذاك، وأى سد يقام لذلك سوق ينسد تمامًا بالطمى فى سنوات معدودة، يفقد بعدها سعة التخزين وتحيل المياه إلى طوفان مهلك وإلا فإن عليه أن ينتظر إلى آخر نهاية الفيضان بعد أن تكون حمولة الطمى قد تصرفت ويصبح مشروعه هزيلًا غير مجد اقتصاديًا.
ويؤكد هذا العالم حقيقة نسأل هل ناقشها الخبراء حينما قال منذ عقود ما نصه، «أما قصارى ما يمكن لأحد أن يفعل فهو أن يتعرض بالسحب لمياه الفصل المنخفض، وهذه لا تعتمد عليها مصر كمورد من مواردها الأساسية فضلًا عن صعوبتها محليًا نظرًا لشدة عمق مجارى الأنهار الحبشية فى هضبتها العالية فهى أنهار جيلية ويتراوح عمق أوديتها العليا بين الكيلومتر والكيلو ونصف كما قد يصل اتساعها إلى بضعة كيلومترات.
ويقول الدكتور حمدان إن أنهار الحبشة باختصار لا تقع على سطح الهضبة، ولكن تحتها، لذا فأى محاولة لرفع أو سحب مياهها محكوم عليها فنيًا.
ويثير العالم الجليل أن الزراعة مطرية فى نطاق المنابع، سواء فى أوغندا أو جنوب السودان وهى على النقيض تمامًا زراعة رى مطلعة وتامة فى نطاق المصب فى مصر ومن هنا، فإن الزراعة فى نطاق دول المنابع الثلاث تجد كفايتها من الماء فى المطر دون أدنى حاجة إلى مياه الري.
ويؤكد أن دول نطاق المنابع لا علاقة لها بطبيعته، فإنه ليس مجتمعًا نيليًا بمعنى الكلمة، ففى أوغندا مجتمع بحيرى أكثر مما هو نهري، وهو فى جنوب السودان مجتمع مستنقعى أكثر ما هو نهري، وهو فى الحبشة هضبى أكثر ما هو نهري، ويؤكد حق الدول فى توليد الكهرباء مؤكدًا أن هذه السدود والمنشآت يمكن أن تفيد هذه الدول إفادة كبرى فى الكهرباء فى حين أنها لا يمكن أن تفيدها حتى ولو أرادت فى المياه إلا بالقدر اليسير لعدم حاجتها إلى المزيد من المياه، وإن اتفاقية 1959 تثبت مبدأ الحقوق المكتسبة وحصتها لكل الطرفين وتثبت مبدأ المناصفة فى المياه أو المشاريع، أذن فإن الأنصبة واضحة والاتفاقية نموذج للتعاون والتعايش لا للخصخصة أو تنافسية بل متكاملة ولا تناقض.
مضى ربع قرن أيها العملاق لكن حضورك العلمى لم يغب عنا ورؤيتك منارة لنا وبلاغتك المستمدة من القرآن الكريم الذى أعطى الجغرافيا ما تستحقه لنا، فأنت دائمًا تستمد اصطلاحاتك العلمية التى تضيف إلى الفكر الإنسانى من القرآن بعين الجغرافى.
لذلك فقد أوصى العالم العربى أن نستفيد من بلاغة القرآن الكريم فى علم الجغرافيا وأوصاهم «واعتصموا بحبل الجغرافيا جميعًا ولا تفرقوا» هذه عظمة القرآن الملهم لكل أفكاره وأبحاثة.