السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الفكر الديني عند اليونان

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
رغم أن كل فلاسفة اليونان تقريبًا قد آمنوا بقدرة العقل، وعالجوا كثيرًا من المشكلات اللاهوتية بالأدلة المنطقية والبراهين العقلية، فضلًا عن أنهم أطلقوا الحرية للعقل فى الحكم على صفات الآلهة وأعمالهم وعلاقتهم بالناس، فإننا نلاحظ أن أفلاطون وأرسطو قد أخذا بالمعتقد التقليدى الذى ينسب الألوهية إلى السماء والكواكب، كما أنهما قد حاولا أن يلتمسا فى الكثير من الأساطير الدينية بعض آثار التفكير الفلسفي، وكأنما هما قد أخذا على عاتقهما أن يوفقا بين الفلسفة والديانة الشعبية.
ولم يلبث الرواقيون Stoics أن فطنوا إلى ما وراء الأساطير والخرافات والطقوس الدينية من معان رمزية، فحاولوا أن يفسّروا الديانة الشعبية تفسيرًا فلسفيًا، وذهبوا إلى أن سائر المعتقدات الدينية والطقوس الشعبية إن هى إلا صور متنوعة لحقيقة واحدة، مادام من شأن العقل الكلى أن يتجلى على أشكال عديدة مختلفة بحسب اختلاف عقول الناس.
ويُعَد «أفلوطين» Plotinus (205 - 270 م) أبرز فلاسفة العهد القديم من حيث الطابع الدينى الذى تتخذه فلسفته. وقد فطن الفلاسفة المسيحيون إلى هذا الطابع الدينى فى فلسفة أفلوطين ابتداءً من دنيس الأروباجى حتى متصوفة العصر الحديث من المسـيحيين. والحق أن أفلوطين كان يسعى إلى الخلاص، ولكنه اتخذ من العقل وسيلة لتحقيق ذلك، واعترف فى الوقت نفسه بأن العقل تابع، وأنه وسيلة للانتقال إلى الواحد وإلى المتعالى، ولهذا فإن النشوة الأخيرة تفترض نوعًا من الفضل الإلهى. وهذه هى التجربة الدينية التى تتجاوز العقل عند أفلوطين، أو هى اتحاد العقل بالمطلق. ومن ثمّ يمكننا القول إن فلسفة أفلوطين نزعة عقلية صوفية.
كانت فلسفة أفلوطين آخر مظهر كبير للفكر الفلسفى اليونانى، فنظرت إلى جوهر العقل، وخُيِّل إليها أنها تستطيع التعالى بمذهبها فى الواحد اللامتناهى فوق العقل نفسه، غير أنها كلما سمت بالألوهية عن الأشياء، وعن الحياة، وعن الفكر نفسه، رأت من الضرورى أن تصنع سلمًا من الكائنات المتوسطة بين الصور العليا للموجودات والصور الدنيا. وهذه المتوسطات هى ميدان الديانة الشعبية وآلهتها القريبة من ضعفنا تمد أيديها إلينا لترفعنا إلى الإله الأعلى. وهكذا يسوغ أفلوطين، من وجهة نظر العقل، جميع ميادين الدين من خرافات وتقاليد وعبادة الصور وصلوات وقرابين وسحر، فهذه كلها رموز متوسطة بين المحسوس والمعقول، وتلعب دورها فى توجيهنا نحو الجوهر اللامادى الذى ليس كمثله شىء.
المهم إن الفلسفة اليونانية فى عهد أفلوطين لم تلبث أن وقعت تحت تأثير الديانات الشرقية بفكرتها عن الخلاص أو النجاة، فنشأت منذ ذلك الحين مشكلة تاريخية كبرى هى مشكلة «العلاقة بين العقل والنقل». والواقع أن مجئ الوحى (من خلال المسيحية ثم الإسلام) وانضمامه إلى العقل فى تقرير الحقيقة، كان سببًا فى إثارة هذه المشكلة الجديدة التى لم يكن يعرفها فلاسفة اليونان. إذ أن الديانة اليونانية لم تكن سوى ديانة طبيعية تقوم على النظر إلى الطبيعة والإنسان.