تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
.. وكأننا بحاجة إلى مزيد من الحزن أو الاضطراب، وكأن الرتق ينتظر مزيدًا من الاتساع، وقد عجزت يد الراتق على رتقه وبلي الثوب.
حتى تباغتنا أحداث مدينة الخصوص محافظة القليوبية، التي سارع البعض بتسميتها أحداث فتنة طائفية، وما هي كذلك.
نحن نواجه حلقة رتيبة وربما مرتبة في سلسلة ممتدة من الأحداث الإجرامية التي داهمت مصر منذ العام 1972 بمدينة الخانكة المتاخمة لمدينة الخصوص، فهل اكتملت الدائرة لتعود إلى نقطتها الأولى بعد نحو أربعة عقود وتفتتح العقد الخامس، وقد تزايدت وتيرة العنف بعد أن كنا نشهد حادثًا كارثيًا بنكهة طائفية بشكل متباعد صرنا نترقبه ويقع بمعدل مرة على الأقل كل شهر في تواصل وإصرار، نفس المنطلقات ونفس النتائج ونفس المعالجات ونفس التبريرات يجمعها الإحالة إلى الزمن بمسكنات تسهم في استفحالها.
الجديد أننا نعبر مرحلة مختلفة ومرتبكة تضاربت فيها مفردات الواقع مع تغريدات وتوهمات مطالب الشباب في بواكير انتفاضتهم، وهو تضارب تم بحرفية واصطناع ممنهج، ولا يمكن أن نقرأ الأعمال الإجرامية التي تقع على أرضية دينية والمسماة على غير الحقيقة فتنة طائفية بنفس تفسيرات أنظمة ما قبل وصول الحكام الجدد بمشروعهم الذي سمعنا عنه، والذي بشرنا بحلم نهضة وحلول عبقرية لكل معاناتنا، فصرنا كمن يسمع ضجيجًا ولا يرى طحينًا.
ولا يمكن قراءة أحداث الخصوص بمعزل عن المشهد العام والتحضير النيراني عبر الموالاة وإعلامهم، فبينما تنقل عيون الفضائيات الرسوم التي فجرت المنطقة التي تمثل رمز النازية العتيد صليب هتلر المعقوف والذي لا يقبله أو يستخدمه الأقباط يتهمون شبابًا قبطيًا برسمه على جدران المعهد الديني هناك، ويهملون تأكيدات مدير أمن القليوبية بأن من رسمه صبية مسلمون.
هل يمكن أن نفهم ما حدث دون أن نشير إلى السعي الحميم لخلخلة منظومة الأمن الرسمية لحساب تقنين إنشاء وتنظيم الميليشيات المسلحة وطلب تسليح آلاف من شباب الإخوان؟.. أو بعيدًا عن تمرير قانون يسمح باستخدام الشعارات الدينية في الدعاية الانتخابية؟.. هل ما وقع منقطع الصلة بإعلان الكنيسة بحسم أنها لم تعد لاعبًا سياسيًا ومن ثم دعوة الأقباط لتحمل مسئولية المشاركة المجتمعية والسياسية دون وصاية، وهل يفهم بعيدًا عن تحرك الأقباط الإيجابي للمشاركة في الذود عن مؤسسة الأزهر ضد مخطط إزاحة شيخه الجليل فضيلة الإمام الدكتور أحمد الطيب؟
هل يمكن إغفال أن هذا جزء من دوافع مذبحة الخصوص وملاحقة الجثامين ومشيعيها حتى الكاتدرائية وحصارها واعتداءات المولوتوف؟ هل يمكن أن نقرأ الهجوم على المشيعين بالكاتدرائية بغير أن نقدر الصدمة التي أصابت من حرّك الصبية والملثمين منفذي الهجوم بعد أن هزت أرجاء الكنيسة هتافات الشباب القبطي المقاطعة للصلاة بسقوط حكم المرشد ورفض اختطاف الوطن لحساب جماعته، في تأكيد جديد على صحوة وطنية خرجت عن السيطرة؟
هل يمكن ألا نعقد مقارنة بين رد الفعل الرسمي المستفز والفوري على حصار مقر المقطم واستنفار كل أدوات المواجهة وتلاحق قرارات ضبط وإحضار الإعلاميين والنشطاء وحبسهم أو الإفراج عنهم بكفالات كبيرة تمهيدًا لإحالتهم للمحاكمات، وسيل التهديدات السيادية عبر خطابات متلفزة في التو واللحظة، بالتصدي لمحاولات المساس بهذا الكيان المفتقر حتى اللحظة للمشروعية، وبين الصمت شبه الكامل من نفس الجهات ثم تحركها على استحياء والذي انحسر إلى بيان باهت لم يحمل مجرد اشارة إلى إدانة مناسبة لجسامة وكارثية الجرائم المركبة والمتلاحقة في أحداث الخصوص والكاتدرائية؟
القراءة الموضوعية لجريمة الخصوص الكاتدرائية بعيدا عن انفعالات اللحظة وضغوطاتها تؤكد أنها لم تأتِ عفو الخاطر، ولا يمكن أن تكون بعيدة عن التخطيط المشيطن المحكم وربما تكون بمثابة قنبلة دخان أو نيران تمهيدية لتمرير حدث جلل يدبر خلف الجدران نتفاجأ معه باستكمال اختطاف الوطن بعد أن تم خطف الأنظار لهذه الأعمال الإجرامية لذا فالترقب ومن ثم التيقظ سيظل سيد الموقف.
ورغم قتامة المشهد يمكن أن نرصد إيجابيات أكدتها الأحداث منها أن كسر إرادة الأقباط لم يتحقق للمخططين والمنفذين بل تأكد أنهم مازلوا رقمًا صعبًا في المعادلة المصرية التي لا يمكن أن تستقيم بدونه، وقد ترجم هذا المعنى في كلمة سكرتير المجمع المقدس في جنازة شهداء الخصوص الأنبا رافائيل حين وجه عبرها ثلاث رسائل، رسالة إلى الله تطالبه بالتدخل ليجري عدله وينتقم لدماء الشهداء، ورسالة للوطن تؤكد أن وطنية الأقباط لا يمكن أن تكون تحت الفحص أو التشكيك وأنهم فداء له كما كانوا على امتداد التاريخ، ورسالة للمصريين المسيحيين (الأقباط) تدعم تمسكهم بقيمهم وأخلاقهم المؤسسة على المحبة وصية المسيح المحورية التي يعيشون بها ولها حتى لمن يبغضونهم ويطاردونهم.
ومن الإيجابيات ذلك التحرك الشعبي من شباب المصريين المسلمين الذي انطلق من مسجد النور المتاخم للكاتدرائية متوجهًا للكاتدرائية لدعم حمايتها في مواجهة الهجمة الشرسة من فلول أعداء الحضارة وحاملي لواء الردة إلى التصحر الوجداني المفارق للمصرية الحميمة، ولم تستطع جحافل الشر أن تمنع شباب المصريين من شق عنان السماء بهتافهم مسلم مسيحي إيد واحدة لتؤكد أن وحدة المصريين عصية على المؤامرات.
ولكن بين هذه الإيجابيات يبقى موقف وزارة الداخلية ملتبسًا، في التعامل المتراخي مع المهاجمين، واعتمادها لغة المواءمات ومحاولة إيجاد تبرير لعنفها مع المجني عليهم كما سجلتها كاميرات المتابعة الإعلامية، إلا إذا جاءوا لنا بتفسير وجود قنابل المولوتوف في يد المدنيين ثم الحديث عن مندسين وطرف ثالث، وقد جاءت الهجمات من خارج الكاتدرائية إلى داخلها، في وجود قيادات الداخلية.
في كل الأحوال وحتى تصبح الأحداث الإجرامية التي وقعت في محور الخصوص الكاتدرائية نقطة في نهاية سطر الإرهاب، على المتنفذين حكومة ورئيسًا أن يبادروا بالتحقيق الجدي والحقيقي لتعقب الجناة ووضع اليد على المحرضين والمخططين والعمل على إعادة الاعتبار لسيادة القانون والدولة التي تدفع دفعا للانهيار. ومازال في فمي ماء.