أنا مضطر لاستفتاح هذه السطور مقتبساً - بتصرف - من القاعدة الشرعية التي تنظم آلية العلاقة بين الضرورات والمحظورات، وهي إن كانت في نصوص الفقه تعتمد الإباحة فنقول إن الضرورات تبيح المحظورات، فإننا – في تعرضنا لأحداث يناير وذكراها السنوية الثالثة – ينبغي أن نتبنى المنع فنقول إن الضرورات لا تبيح المحظورات.
فإن سلّمنا بأن هناك من الظروف الاجتماعية والسياسية والمزاجية - في الإطار الوطني - ما أفضى بالقطع إلى أحداث يناير، فإن هناك كذلك من المحظورات غير الوطنية ما ترتب على تلك الأحداث أو اكتنفها وتلبّسها، وبما لا يسمح لأي وطني شريف في هذا البلد بأن يقبله، وبالذات مع ما يتكشّف لنا في كل يوم عن حجم المؤامرات التي أحاطت بذلك الحدث وركبته، وقامت بتخليق أو تصنيع طبقة من رموزه ونجومه فيما يسمى الائتلافات الثورية ولجان الحكماء و 6 أبريل وفصائل التطرف الإسلامي، وعلى رأسها التنظيم الأم "جماعة الإخوان الإرهابية".
وقد توالت القرائن والبراهين الموثّقة، مشيرة إلى أن النسبة الغالبة من تلك الطبقة القائدة التي أطلقها يناير في سماء البلد كانت – في نهاية المطاف – رهطاً من العملاء والجواسيس والخونة.
نعم.. تتابعت وثائق العار تصادق على مشاعر قلق وحيرة تملّكت مشاعرنا إزاء عصبة الذين نصبوا أنفسهم مفتشي نضال على كل فئات الشعب، ومارسوا من العزل والإقصاء والنفي والتجاهل والتجميد والاعتداء اللفظي ما لم تمارسه علينا سلطة احتلال، فيما هم - في نهاية النهار- مجموعة أدوات حقيرة لثلاثة عشر جهاز مخابرات دولي، وعدد من منظمات تفكيك الدول الوطنية التي خرجت من عبّ "جورج سورس"، ومخطط عفن قذر يحقق حلما أخرق بدولة الخلافة، وينفذ مؤامرة اسمها الشرق الأوسط الكبير.
كانت هناك – بالفعل - ضرورات ليناير، تجلّت لسنوات قبل انفجار الأوضاع، سواء فيما يخص – بالذات - السياسات الاجتماعية أو الإخلال بحق المجتمع في بناء تعددية حقيقية عبر الانتخابات، أو ذلك الشبح الذي راح يخيف المصريين ويشعرهم بالإهانة وعنوانه "التوريث".
ولكن كل الضرورات التي دفعت إلى يناير لا تبيح المحظورات التي تتمثّل في الإذعان لمنطق ومضمون المؤامرات الدولية أو المخطط الجهنمي لقوى التطرف الديني، أو لذلك الحلف البغيض والعبثي بين مدعيّ الإسلام ومدعيّ الليبرالية ومدعيّ اليسار.
لا يقبل تراث الدولة المصرية محظورات تمكين الخونة من تفكيك الدولة "كما تعلّموا في أتبور وكانفاس وموفمنت بصربيا وأمريكا وتركيا"، ولا تستطيع أيّة قوة كانت على الأرض قهر إرادة المصريين وإجبارهم على قبول تحكم عصابة النشطاء في مستقبلهم بكل الصور الكريهة والقبيحة التي شاعت عنهم، وعانقوا فيها معاني قلّة الأدب وثقل الظل وانعدام الوطنية ومخاصمة الحقيقة وخداع الناس وتزييف الوقائع بأكثر الطرق انحطاطاً.
الموضوع ليس فقط أسماء وردت في تسجيلات مكالمات تليفونية، ولكنها دائرة أوسع من ذلك تشمل مئات من العيال المجرمين والإعلاميين الانتهازيين من عملاء قطر وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وحماس، ولا سبيل للحديث عن أي مستقبل في مصر ما لم يدرأ البلد وجودهم ويتخلص من ظهورهم في المشهد العام ومحاولاتهم اختطاف مقدرات مصر مرة بعد مرة بعد مرة، بطرق تتغير متلونة مع كل محاولة مثل الحرباء.
ولن يستطيع أحد الشرفاء في مصر أن يجهر معلنا اعترافه بضرورات يناير ما لم يحترم الجميع محظوراته، ويعرفون أن تلك الضرورات لن تبيحها أبدا.