كتبت أول قصة قصيرة فى كراسة المدرسة.. ومجلات الأطفال كانت بابى للصحافة
شاركت فى جماعة الصحافة خلال المرحلة الثانوية.. وعلى أمين سلمنى الجائزة
لا أذكر ماذا علمنى مصطفى أمين؛ لأنه علمنى أشياء كثيرة.. كنت كلما كتبت شيئاً أعجبه، كان ليعطينى ورقة بعشرة جنيهات يضع توقيعه عليها
أبى أجبرنى على الالتحاق بالقسم العلمى.. وكنت أهرب من حصص الكيمياء والطبيعة وأتسلل إلى فصول الأدب، تغيرت أشياء كثيرة فى مشوارى فى شارع الصحافة.. عندما عرفت أستاذى إبراهيم سعدة الكاتب الصحفى محمود صلاح، واحد من أهم الصحفيين الذين دخلوا عالم الصحافة فى منتصف السبعينيات، وأصبح فى غضون سنوات قليلة اسمًا لامعًا فى عالم صاحبة الجلالة، وأصبح واحدًا من أهم الصحفيين المتخصصين فى القطاع الأمنى والقضائى أو قل «الحوادث»، وهو صاحب فكرة تأسيس جريدة أخبار الحوادث، كأول جريدة متخصصة فى هذا النوع من الأخبار. ورغم حبه وعشقه للجريدة التى كان صاحب فكرتها ووضع بروفاتها، وتولى العمل فيها لسنوات، أصبح رئيسًا لتحرير مجلة «آخر ساعة» أحد أهم إصدارات مؤسسة أخبار اليوم. وشهدت المجلة على أيدى «ملك صحافة الحوادث» كما يطلق عليه جيله من الصحفيين، نقلة نوعية، بطابع خبراته فى القطاع القضائي، وبعدها بسنوات انتقل صلاح، إلى «أخبار الحوادث» عشقه الرئيسي، والأهم فى تاريخه الصحفى. «صلاح» إنه تلميذ نجيب لجيل قديم فى الصحافة المصرية، تتلمذ على أيدى مصطفى أمين، وتربى على صحافة جلال الحمامصي، وصحفيى أخبار اليوم. «البوابة» تستضيف على صفحاتها قلم «محمود صلاح» ليقدم للأجيال تجارب الصحافة التى تتلمذ عليها هو وجيله، وليقدم للشباب الدروس التى تعلمها عبر أكثر من 40 عامًا من الصحافة، لتتعلم هذه الأجيال أخلاقيات مهنية تكاد تندثر.
سألنى صاحبى عن الصحافة فى حياتى، وكأن الصحافة لم تكن كل حياتى!
أذكر نفسى طفلاً صغيراً لم يتعد الثانية عشر من عمره، أدخر طوال الأسبوع من مصروفى، ما يمكننى فى نهاية الأسبوع، من شراء مجلة الأطفال، أقرأها أول مرة بلهفة، وأعيد قراءتها مرات ومرات باللهفة نفسها.
مجلات الأطفال هى التى فتحت عينى على عالم خيالى ساحر، كان هو أول دنيا أعرفها، وما زلت رغم الشيخوخة التى طرقت أبوابها، أغمض عينى فأرحل عبر الخيال فى ذلك العالم الساحر، الذى تفتحت عليه براءة الطفولة!
كنت طفلاً هادئاً ضئيل الحكم، خلقنى ربى على شكل أبعدنى عن شقاوة الأطفال، التى لا أستطيع مشاركتهم فيها، وأكتفى بالبقاء بعيداً وأنا أنظر إليهم يتسابقون ويجرون ويتصارعون.
ولم يكن لدى سوى هذه المجلات، وبعض الكتب والروايات، كانت هى حضن طفولتى، وعاشت معى حتى هذه اللحظة.
وفى دراستى الابتدائية كتبت فى كراسة المدرسة أول قصة قصيرة، وأرسلتها إلى مجلة أطفال، وفوجئت بهم ينشرونها، ويطلبون منى الذهاب لاستلام جائزة القصة وكانت جنيهاً واحداً، سلمنى إياه الراحل نعمان عاشور.
وفى الثانوى، شاركت فى جماعة الصحافة، وفزت بجائزة مسابقة كبيرة، بين كل المدارس، وتسلمت الجائزة من أستاذى الكبير الراحل على أمين على مسرح مدرسة «هدى شعراوى» بقصر العينى.
كان أبى يتمنى أن أكون طبيباً، كان يحلم بذلك ويتحدث عن ابنه الدكتور طوال الوقت.
وفى الثانوى أجبرنى على دخول القسم العلمى حتى ألتحق بكلية الطب.
لكن كنت أهرب من حصص الكيمياء والطبيعة وأتسلل إلى فصول الأدبى وأستمع إلى دروس التاريخ والفلسفة!
ونجحت فى الثانوية وأهلنى مجموعى للالتحاق بكلية طب الأسنان، وذهبت أوراقى إليها، وكاد حلم أبى أن يتحقق، لكن فى التوقيت نفسه أغلق قسم الصحافة فى كلية آداب جامعة القاهرة، وأعلن عن افتتاح كلية الإعلام التى أنشئت فى البداية كمعهد، وكان الالتحاق بها يتطلب غير المجموع، امتحانات شفهية وتحريرية.
وفى السر امتحنت فى كلية الإعلام، ونجحت فلم يكن أمامى سوى مصارحة أبى، أننى لا أحب ولا أرغب فى الاستمرار فى كلية طب الأسنان، وأريد الدراسة فى كلية الإعلام.
عايز تبقى صحفى؟
سألنى أبى بلهجة سخرية واضحة.
أطرقت برأسى نحو الأرض فى حزن عاجزاً عن الرد.
لكن أبى أنهى الموقف الصعب ببساطة غريبة.
وقال لى: اعمل اللى أنت عايزه!
لا يعرف أحد سوى تلك المجموعة القليلة من الدفعة الأولى فى كلية الإعلام. كيف تعرفنا على الصحافة على يد أساتذة كبار، فى مقدمتهم أستاذى الكبير جلال الحمامصى، الذى علمنا مبادئ وأخلاقيات الصحافة. أكثر من علومها وأسرارها.
أحببت جلال الحمامصى واحترمته، كان صحفياً رائعاً وكان يبدو بأناقته وأسلوبه فى الحديث مثل لورد بريطانى صاحب كبريا، لكن طوال محاضراته كنت لسبب لا أدريه أشاغب وأعارضه.
وجعلنا جلال الحمامصى نصدر جريدة «صوت الجامعة»، وطلب أن نكون وزملائى كل أسرة الجريدة، رئيس التحرير طالب والمحررون طلبة، لكن عندما طلب منا جميعاً أن نقوم ببيعها على طلاب الجامعات، فعلتها مرة واحدة، ثم أعلنت أننى لن أقوم بدور بائع الصحف، وقبلت بحرمانى من الدرجات التى خصصها الأستاذ الحمامصى لمهمة توزيع وبيع الجريدة!
وفى عامى الثانى بكلية الإعلام، أرسلتنى عمتى إلى الأستاذ الكبير حسن فؤاد فى مجلة «صباح الخير»، وبدلاً من تدريبى فوجئت به يطلب من الأستاذ لويس جريس أن أعمل محرراً تحت التمرين، وبدأت فى «صباح الخير» وأنا لم أزل طالباً، وكانت معظمها موضوعات إنسانية تدور حول حياة الناس البسطاء.
وحتى تلك الأيام كانت الصحافة فى نظرى لوحات متعددة بكل ألوان الطيف، ولم أعرف إلا بعد أنها لونان اثنان، هما الأسود والأبيض، وبينهما كل ألوان واقع الحياة الذى يعيشه الناس.
وعرفت أن خيالى شىء ودراما الحياة الحقيقية شىء آخر!
لم أحلم يوماً أن أقابل عملاق الصحافة مصطفى أمين، لكن قدرى شاء لى بعد التخرج فى كلية الإعلام فى العام ١٩٧٥، أن يرسلنى أستاذى جلال الحمامصى مع عدد قليل من زملائى للعمل فى «أخبار اليوم».
كان رئيس تحرير أخبار اليوم فى ذلك الوقت هو نفسه مصطفى أمين الذى عاد إلى داره بعد تسع سنوات فى السجن.
وكان مدير التحرير سعيد سنبل، الذى تحمس لى وشجعنى، لكنى قبل أن أكمل عامى الأول فى «أخبار اليوم»، فوجئت بمصطفى أمين يطلب منى أن أعرض عليه كل ما أكتبه من أخبار وموضوعات.
بدأت أتعرف على مصطفى، وجدت فيه الأستاذ والأب، على يديه تعلمت أسرار مدرسة «أخبار اليوم» الصحفية، كان يرعانى ويحنو علىّ ويعلمنى، وعندما سألوه يوماً فى التليفزيون عن آخر خليفة له فى مدرسته.
قال: الولد ده!
لا أذكر ماذا علمنى مصطفى أمين؛ لأنه علمنى أشياء كثيرة.. كبيرة وصغيرة، كنت كلما كتبت شيئاً أعجبه، كان يضع يده فى جيبه ليعطينى ورقة بعشرة جنيهات يضع توقيعه عليها، وأخيراً طلبت منه ألا يوقع على النقود التى يعطيها لى.
سألنى بدهشة: لماذا؟
رددت بالصراحة:
لأنى لا أستطيع أن أنفق نقوداً عليها توقيعك!
وكان يتندر أمام زواره.
قائلاً: أنا ومحمود صلاح نحصل على ٥٠١٥ جنيهاً فى الشهر!
ويضحك زواره الذين بالطبع كانوا يعرفون، من مرتبه ٥ آلاف جنيه، ومن مرتبه ١٥ جنيهاً!
فى دنيا الصحافة ليس سهلا أن تقول «أنا تلميذ مصطفى أمين»، ذلك أنك ولا بد بهذه العبارة سوف تضع نفسك فى منطقة عجيبة من المتناقضات والإثارة.
تماما بحجم تاريخ متناقضات إثارة مدرسة «مصطفى وعلى أمين»، والتى لا يجرؤ أحد على الزعم بأنها لم تؤثر- وما زالت- فى الصحافة العربية وليس المصرية فقط.
وقد يكون من الصعب أن يتحدث التلميذ عن أستاذه فى صراحة. إذ يظل التلميذ تلميذا والأستاذ أستاذا، لكن أجمل الدروس وأولها التى تعلمتها على يدى أستاذى مصطفى أمين، كانت أن الصحافة الحقة فريق عمل.. لكل أحد فيها دوره المهم حتى ولو كان دورا هامشيا.
عندما التقيته لأول مرة.. كان الرئيس الراحل أنور السادات قد أفرج عنه بعد أن ظل فى السجن طوال تسع سنوات، قام خلالها بكتابة العديد من الكتب التى كانت أشهرها سلسلة كتبه «سنة أولى وثانية وثالثة سجن» إلخ. أهدانى مصطفى أمين نسخا من هذه الكتب مع إهداء بخط يده، يقول فيه: «إلى زميلى وصديقى محمود»، وقد تعجبت كثيرا من أن يعتبرنى الصحفى العملاق زميلا له، رغم أننى كنت وقتها صحفيا تحت التمرين.
روح الدعابة وهذه الضحكة المجلجلة العميقة ذلك شىء يتميز به مصطفى أمين. وإن كانت ليست ميزته الوحيدة، لكنك إن لم تكن صحفيا وإذا كنت لم تلتق به من قبل.. يمكنك أن تكتشف ذلك إذا ذهبت للقائه لسبب أو آخر.. الرجل طوال عمره كان يستقبل كل يوم عشرات من نماذج البشر المختلفة.. هذا غير أصحاب الحاجات والشكاوى الذين ينتظرون حضوره كل صباح.. فى مشهد يحفظه جيدا شارع الصحافة.. حين يهبط من سيارته السوداء فيجدهم فى انتظاره وكل منهم يحمل ورقة كتب بها مشكلته.
لكن زائر مصطفى أمين لا بد أولا أن يصعد إلى مكتبه الذى لم يتغير منذ سنوات طويلة فى الطابق التاسع بدار «أخبار اليوم»، ثم تلتقى فى حجرة السكرتارية رجلا متوسط القامة يمتلئ حيوية ونشاطا.. هو الأستاذ «كرم» مدير مكتب مصطفى أمين.
والذى كان فى يوم من الأيام زميلا له فى السجن!
وحين تخطو إلى مكتب عملاق الصحافة المصرية، سوف تلاحظ من الوهلة الأولى أن الرجل عملاق البنية فعلا، هو يجلس إلى مكتبه فى صدر الغرفة، أمامه أوراقه البيضاء والكتب على جانبى المكتب الذى تتوسطه «محبرة» قديمة؛ لأن مصطفى أمين ما زال وفيا للقلم الحبر الذى تخلى عنه الناس، وإذا شاءت الظروف أن تشاهده وهو يكتب زاويته الشهيرة «فكرة»، وقد كانت فيما مضى زاوية توءمه الراحل على أمين، وواصل مصطفى أمين كتابتها بعد وفاة على أمين. قد تتعجب عندما تجده يضع القلم على الورقة ثم ينطلق فى الكتابة مرة احدة.. لا يتوقف إلا عندما يضع النقطة الأخيرة فى نهاية المقال.
وقد تحولت «فكرة» إلى كتاب مهم من كتب مصطفى أمين الكثيرة، وهى الزاوية التى كان ينتظرها ملايين المصريين كل صباح، يتنفسون خلال سطورها الحرية والجرأة التى يكتبها بها مصطفى أمين، الذى تعرض من خلالها وطوال سنوات لقضايا الشعب المصرى والعربى بكل جسارة. وفى يوم من الأيام تسببت «فكرة» واحدة فى أن يمنع الرئيس الراحل السادات مصطفى أمين من كتابة «فكرة» لأكثر من ٤٠ يوما، حين كتب عن «هرولة» البعض للانضمام إلى حزب الحكومة أيامها.
وإذا كان مصطفى أمين قد علمنى فى بداية عملى الصحفى كيف أقرأ «بالمقلوب» إذا جلست إلى مكتب أحد المصادر، لعلنى أجد فى أوراقه خبرا مهما لجريدتى، فإنه بالقطع لم يعلمنى- ولم يعلم- أننى أقوم بسرقة مقال «فكرة» الذى يكتبه بخط يده بعد أن يذهب إلى المطبعة.. وأحتفظ بعدد كبير من مقالاته مكتوبة بخط يده.
وكان فيما مضى يمارس دعاباته معى وأنا محرر تحت التمرين؛ فيمسك بورقة خالية، ويقول لى:
انظر هذه الورقة الخالية لا تساوى شيئا غير ثمنها.. فإذا كتب عليها مصطفى أمين تساوى الكثير وتذهب إلى المطابع فورا.. إذا كتب عليها واحد مثل حضرتك.. تذهب الورقة فورا إلى سلة المهملات.
ثم ينطلق فى نوبة ضحكه إياها.. «هاها.. هاها»!
وقد تعلمت الكثير من مصطفى أمين. لكنى ورثت عنه كراهية الظلم والظالمين، كنت ذات يوم قد سألته مبهورا بشجاعته وجرأته، ودفاعه المستميت عن الحق والحرية الديمقراطية.
مصطفى بك.. هل كنت هكذا فيما مضى؟
أغمض الرجل الكبير عينيه برهة وكأنه يستعرض تاريخ حياته.
وارتجف قلبى من أمانته حين وجدته يقول لى بمنتهى البساطة: لا.. الزمن علمنى!
لكنى أزعم أنه كان هناك مدرس آخر لمصطفى أمين غير الزمن، وهو السجن، يمكننى أن أزعم أن مصطفى أمين آخر ولد فى ليمان طرة؛ فقد كان مدخنا رهيبا قبل سجنه.. وحين وجد أن التدخين سوف يكون نقطة ضعفه فى السجن وقد يستغلها أحد. فقد توقف عن التدخين فورا.
وما زلت حتى اليوم أحتفظ بصورة معبرة لمصطفى أمين فى زنزانته بليمان طرة.. كان الرئيس السادات فى منتصف السبعينيات قد فكر فى هدم الليمان الشهير وتحويله إلى متحف، وذهب بنفسه ليضرب أول معول هدم فى الليمان، وذهب معه مصطفى أمين الذى طلب أن يرى الزنزانة التى كان محبوسا فيها.
ووقفت أرقبه وهو يفتح باب الزنزانة ويخطو داخلها فى وجل.. ثم أشار إلى نافذة ضيقة أشبه «بالكوة» فى سقف الزنزانة.
وقال لى: من هنا.. كنت أقوم بتهريب كتبى ورواياتى عندما كانوا يداهمون الزنزانة فى تفتيش مفاجئ!
وعندما طلب المصور الفنان فاروق إبراهيم من مصطفى أمين أن يلتقط له صورة فوتوغرافية داخل الزنزانة، وحاول فاروق أن يغلق الباب قليلا على مصطفى أمين حتى تبدو الصورة معبرة، فوجئت بمصطفى أمين يندفع فى خوف نحو الباب، كأنه يخشى أن يغلق عليه باب الزنزانة مرة أخرى.
هو يصيح فى فاروق: افتح.. افتح!
لكن أكثر ما كان يجعلنى أقف مشدوها أمام هذا الرجل، هو مقدرته الخارقة على تحمل الصدمات والضربات.. وما من شك أن مصطفى أمين عانى كثيرا فى حياته، حتى منذ فترة طفولته وصباه مع توءمه الراحل على أمين. كان الاثنان مهوسين بالصحافة.. تعرضا للاضطهاد والملاحقة والافتراءات والسجن والنفى.. لكن مصطفى أمين كان يخرج دائما من المحن أقوى وأفضل.. وكانت هذه التجارب القاسية هى خلاصة المداد الذى يكتب به عن الحرية الحق.
أحيانا وحين كنت أهتز من تأثير بعض الضربات التى وجهت لى، لم أكن أجد ملاذا سوى مصطفى أمين، وذات مرة كانت الضغوط أكثر مما أتحمل.
فقلت له: لا أريد الصحافة.. سوف أبحث عن عمل آخر لا أتعرض فيه للظلم. إننى إنسان بسيط لا قبل لى بالصراعات.
ابتسم عملاق الصحافة، وقال لى:
أنت الآن تذكرنى بالفنان الراحل عبدالحليم حافظ.. كثيرا ما كان يأتينى حزينا ويجلس إلى نفس المقعد الذى تجلس إليه الآن.. ويشكو لى من الظلم والاضطهاد ومحاولات البعض لتشويه صورته، لا أستطيع أن أعطيك سوى نفس النصيحة التى أعطيتها ذات يوم لعبدالحليم حافظ.. أجمع كل الحجارة التى يقذفونك بها.. واصنع منها هرما تقف فوقه.. ستظل دائما أعلى من قصار القامة الحاقدين.. واعلم أنهم لا يقذفون بالأحجار سوى الأشجار المثمرة.
كم مرة يا أستاذ عملت بنصيحتك، لكن النصيحة وحدها لا تكفى.. وبعض الجروح لا تشفى حتى بدواء الزمن.. ولقد خلق الله الناس بقدرات ميز بها البعض عن الآخر.. ولهذا يظل الأستاذ أستاذا.. والتلميذ تلميذا!
وفى «أخبار اليوم»، الدار والجريدة، عرفت وتعلمت على أيدى أساتذة كبار فن الصحافة.. أستاذى موسى صبرى.. أستاذى إبراهيم يونس.. ثم أخى وصديقى الكبير وجيه أبو ذكرى.. الذى أحببته وأحبنى.. ولى معه حكايات وحكايات.
وتغيرت أشياء كثيرة فى مشوارى فى شارع الصحافة.. عندما عرفت أستاذى إبراهيم سعدة، والذى عينه الرئيس أنور السادات رئيساً لتحرير أخبار اليوم، واعترض البعض ممن كانوا يكبرونه سناً، لكن إبراهيم سعدة كان صحفياً موهوباً وكاتباً خطيراً.
تحمس لى منذ البداية وعندما أصبح رئيساً للتحرير، عرضت عليه أن أكتب أول صفحة حوادث كاملة.. فى الصحافة المصرية والعربية.. ووافق إبراهيم سعدة.. وثق فى وشجعنى.. وكنت أكتب قصص صفحة الحوادث بأسلوب القصة الإنسانية. فأعجب بها القراء.. وجاء يوم كانت جريدة «أخبار اليوم» يفتحها القارئ من الخلف.. من الصفحة الرابعة عشرة.. صفحة الحوادث.
ولم يعتمد إبراهيم سعدة على عملى فى الحوادث فقط، بل كان يكلفنى بالعديد من التحقيقات الصحفية فى مصر وخارج مصر، كنت قد شاركت فى حملة مطاردة تجار المخدرات.. وتعرضت للموت وإطلاق الرصاص أكثر من مرة.. وتلقيت تهديدات بقتلى وخطف أطفالى.
وسافرت لتغطية أحداث آخر سنة فى الحرب الأهلية اللبنانية، وهناك أيضاً تعرضت لخطر الموت، لكنى خرجت من لبنان بصداقات جميلة مع شخصيات رائعة.. أهمها «فيروز» سفيرة لبنان إلى القمر.
ثم كانت تجربة إصدار جريدة «أخبار الحوادث» الإنجاز الأهم فى حياتى الصحفية.
كانت دار «أخبار اليوم»، قد تحولت مع مرور السنوات إلى بيتى الحقيقى.. ولم أكن وحدى الذى شعر بهذا الإحساس.. ومع الأيام زاد اعتماد إبراهيم سعدة على إخلاصى وعملى.. حتى رشحنى لرئاسة تحريرها.. لكنى شكرته واعتذرت.. وعندما سألنى أى إصدار إذن أريد أن أرأس تحريره.
وجدت نفسى أقول دون أن أدرى: آخر ساعة!
كنت قد أجريت عملية القلب المفتوح فى لندن عقب تغطيتى الصحفية لحادث مجزرة الدير البحرى فى الأقصر. وفور أن توليت رئاسة تحرير «آخر ساعة»، طلب منى إبراهيم سعدة تنفيذ خطة لتطويرها.. قمت بإعادة حجم المجلة إلى الحجم الذى أصدرها عليه مؤسسها أمير الصحافة محمد التابعى، واجتهدت مع زملائى فيها، الكبار والصغارـ فى السن ـ لتطوير المادة الصحفية.
وعاصر القراء أغلفة مميزة لآخر ساعة الجديدة، منها غلاف البابا شنودة وهو يبكى أمام صورة الشيخ الشعراوى بعد وفاته، وعليها عبارة «سلام يا صاحبى»!
وأيضاً أغلفة سعاد حسنى التى قالت فيها أنها «راجعة مصر»، ثم الغلاف الذى ظهر ثانى يوم مصرعها وعليه كلمة «قتلناها»!
عشت فى «آخر ساعة» أجمل أربع سنوات فى عمرى الصحفى.. جلست على المقعد الذى جلس عليه محمد التابعى ومصطفى أمين وعلى أمين ومحمد حسنين هيكل وأنيس منصور وغيرهم من عمالقة الصحافة فى مصر. وعدت من «آخر ساعة» إلى «أخبار الحوادث» رئيساً لتحريرها، ومحرراً فيها.
بعد مشوار عمره ٣٥ سنة فى شارع الصحافة.
شاب شعرى.
وانكسر قلبى.
وتعبت أقدامى.
لكنى ما زلت لا أشعر أننى على قيد الحياة.
إلا إذا.. أمسكت بقلمى!