العقلية الإنجليزية قدمت للعالم اختراعين كانا بمثابة نقطة تحول حضاري وسياسي واقتصادي وتراثي، وربما فاق في الأثر ما تقدم حضارات ومخترعات أمريكا من غزو الفضاء وحرب الكواكب.
الاختراع الأول هو كرة القدم التي لعبت دورا برءوس البشر، وكان لها فعل السحر وجعلت حياة الجماهير أكثر ديناميكية.
والاختراع الثاني هو طرح فكرة الأحزاب السياسية على ساحة الرأي العام وبدأت بها فكرة التعددية فهي أيضًا كرة قدم ليست على البساط الأخضر لكنها تحت قبة البرلمان.
ورغم أن التفوق الكروي في إتقان لعبة كرة القدم انتقلت عواصمها ومدارسها تارة إلى وسط أوروبا وتارة أخرى إلى أمريكا اللاتينية فإن العالم سيظل مدينا لإنجلترا في حق الملكية الفكرية لهذا الاختراع حتى ولو كان من باب العرفان الأدبي وعلى سبيل التذكار.
إن كرة القدم يمكن أن تكون زمناً فاصلاً بين اختراعها وقبل معرفة قواعدها ومع ذلك فقد انتشرت بصورة جنونية في عشقها، وتعددت مدارسها من أجل فهم أسرارها فهي حالياً أكبر صناعة تحقق أرقامًا إيرادية في العالم ويمكن أن يقال إنها شركة قابضة تتحرك في مسارات إنسانية واقتصادية واجتماعية ونفسية وسياحيًا وتربويًا، وأصبح الجالس على كرسي الفيفا هو ملك العالم غير المتوج، فهو يتحكم في آليات الإثارة والمتعة ويخاطب البشرية بلغة مفهومة صنعتها تلك الساحرة حيث توحدت تلك اللغة في تحقيق "المتعة للجميع" دون النظر إلى اللغة أو الدين أو القومية، وأصبح نجم الكرة معشوق الجميع في بلاده أو خارجها وأكثر من ساسة العالم شهرة وتأثيرًا.
وعلى أرض إنجلترا أيضًا كانت النشأة الأولى للنظام الحزبي في الغرب باعتبارها مهد النظام النيابي ومسقط رأسه وذلك في القرن السابع عشر، ويقال عند الساسة عند ظهور مذهب سياسي أو اقتصادي أو أي معادلات تجرى اجتماعيًا أو ألاعيب على الساحة الدولية تجدهم على الفور يقولون "فتش عن بريطانيا" فهي تقوم بدور (الملقن السياسي) للاعبين على المسرح الدولي وأحيانًا يكون مكانهم في (الكمبوشة) أو وراء الستار أو على شكل إستشارة من خلال المكاتب والشركات المتخصصة أو الوكالات الدولية أو عن طريق الجاليات عربية أو آسيوية أو إسلامية أو مسيحية فهي ملتقى جميع الأجناس لكي تنبت على أرض الزراعات الخالية من أي مواد كيماوية أو تمت معالجتها بالهندسة الوراثية، كل هذا يتم في إنجلترا التي كانت لا تغيب عنها الشمس لكنها أرادت نفسها عن قناعة أن تكون وصيف الولايات المتحدة وعقلها الناضج سياسياً وواضعي إستراتيجية تحركها، ومعظم الإنجليز هم مهندسو الصياغة وصناعة الفتن ووجدوا ضالتهم واعتبروا أن دورهم في العالم ممتد من خلال العلاقة الكاثوليكية بينهم وبين الولايات المتحدة، فهمي تقوم بدور صانع الألعاب الذي يحرك (الأراجوز).
هذا الدور لبريطانيا بشر به تشرشل واستطاعت تلميذته مارجريت تاتشر أن تواصل هذه الرسالة وبلغ أوجها في عهد الرئيس الأمريكي رونالد ريجان، لكن يبدو أن المسئولين الحاليين قاموا بتبديد ميراثهم من الدهاء السياسي واختلت موازين الرؤية عندهم فقد راضوا طواعية أن يتخلوا عن وظيفتهم بل يخيل إلى أنهم منحوا أجازة إجبارية بدون مرتب لأنهم فقدوا صلاحيتهم وفسدت المادة الفعالة في وصفاتهم التي كانت تدخل في دائرة "السحر الدبلوماسي".
هبطت إنجلترا ومع ذلك فإن الشمس السياسية لم تغرب على الساحة السياسية الأنجليزية، لكن الشهور الأخيرة أنحصرت شهرة لندن في (مجدي يعقوب ومحمد صلاح) وجاء إلى الساحة الرئيس الشاب ماكرون ليقلب الموازين السياسية ويمثل نقطة التعادل وحجر الزاوية في التوازن الذي يحتاجه السلم العالمي أمام الرئيس المقامر في واشنطن، ورئيس داهية متريث وثابت في موسكو، وجاء ماكرون بكيمياء سياسية وإيديولوجية مقبولة من الرأي العام وإن ما يجمعه بين أماني الشعوب والدول أكثر مما يفرقهم لم يسع إلى مواجهات ساخنة بدون سابق إنذار لكن جعل قضية المواجهة الوحيدة مع الأرهاب وأتصور أن هذا الرجل يكاد يكون السياسي الوحيد على الساحة الأوروبية الذي تنطبق عليه شروط الحصول على جائزة نوبل لأن هذا إعلاء لقيم التسامح الذي ينتجها، لكن إذا منحت لمغامر أو لمقامر تكون تماما مثل ما منحت لرئيس أمريكي سابق ووقتها علق العالم كله أن أوباما لا يستحق جائزة نوبل في السلام، ولكن من حقه أن يحصل على نوبل في الكلام.