أكتب متأخرًا عن خالد محيى الدين، أكتب وأنا أعرف تمامًا أنه فى غنى عن هذه المقالة، وكذلك تلامذته ومحبيه هم أيضًا فى غنى عما أكتب، فالرجل الذى انتفضت مصر بكل ألوانها السياسية حزنًا لرحيله قد دخل التاريخ مبكرًا حتى صار أيقونة ملهمة لعشرات الآلاف من المناضلين الحالمين بمجتمع العدل والحرية، لذلك أنا الذى فى أمس الحاجة للكتابة عنه، ربما تتلامس روحى مع بعض من ملامح الزعيم، فأخرج وقد مسنى التوازن.
«خالد» المسيرة الطويلة بكل انتصاراتها وانكساراتها، الضابط صغير الرتبة -وقتها- لم يكن يعرف وهو يخرج على رأس كتيبته ليلة الثالث والعشرين من يوليو 1952 ليحاصر منطقة مصر الجديدة بالقاهرة، والتى يتواجد بها مقر قيادة الجيش، ويعزلها تمامًا عن مصر ليسهل لزملائه إحكام قبضتهم لإسقاط نظام الملك، لم يكن يعرف فى تلك اللحظات أنه يدخل إلى عالم الخلود والمجد، ولكنه فعل ذلك كفارس ملتزم وكواجب عليه مفروض بحكم انتمائه لتراب هذا البلد وكرامة شعبها، فعل ذلك بحكم كونه عضو الخلية الأولى لتنظيم الضباط الأحرار زميلًا ورفيقًا لجمال عبدالناصر.
«ناصر» الذى لم يجد لابنه البكر اسمًا يفرح به سوى «خالد» تفاؤلًا بمزايا صديقه خالد محيى الدين، ليصبح ناصر فيما بعد اسمه «أبوخالد» ويهتف له الشعب المصرى «أبوخالد ياحبيب.. بكره ندخل تل أبيب»، لذلك سيبقى جمال عبدالناصر وخالد محيى الدين رغم تعاريج الطريق الذى جمعهما، مدرسة كبرى للوطنية المصرية ينكشف كل يوم فصل من فصولها وسر من أسرارها.
الخالد محيى الدين ببساطته العميقة استطاع على مدار تاريخه أن ينسج ملايين القصص القصيرة مع ملايين البشر داخل مصر من الفلاحين والعمال أولًا، وصولًا إلى أرفع السياسيين والمفكرين داخل مصر وخارجها، هذه اللوحة الفنية النادرة امتدت على مدار تاريخه وفى كل يوم كانت الإضافات تتوالى ولا تتوقف مهما كانت صعوبة اللحظة، اللوحة اكتملت الأسبوع الماضى، عندما استقبلناه على مدخل مدينة «كفر شكر» مسقط رأسه، ولكنه جاء إلينا هذه المرة ملفوفًا بالعلم المصرى، وبرغم أننا افتقدنا ابتسامته المذهلة إلا أن الآلاف الذين كانوا بانتظاره استطاعوا تجاوز أحزانهم ليهتفوا من قلوبهم حتى انجرحت حناجرهم «خالد خالد محيى الدين.. عايش جوا قلوب ملايين»، «تحيا مصر تحيا مصر.. خالد هو ضمير العصر»، «صغت مبادئ ثورة فى ستة.. واحنا وراك عارفين السكة»، «قول ياشعب القليوبية.. خالد رمز للوطنية».
«خالد» ليس صفحة عابرة فى التاريخ الوطنى والسياسى والإنسانى بمصر، «خالد» هو كتاب كامل لأنه ببساطة عرف متى يستغنى ومتى يقتحم، عرف كيف يكون البناء، وكيف يكون التراكم من أجل رفعة بلادنا، عرف ويعرف محبيه البوصلة وهى تشير إلى الطريق الصحيح من أجل مصر وطنًا للحرية والاشتراكية.
بعيدًا عن الأدوار الرئيسية التى لعبها من أجل تقدم بلادنا وهى ليست موضوع هذا المقال، يهمنى التوقف عند إنسانية خالد محيى الدين وتواضعه، صاحب الباب المفتوح على مصراعيه ليلجأ إليه كل صاحب مظلمة دون سابق معرفة، رأيت بعينى وشهدت بحكم معايشتى له وبجواره فى سنوات عمله الأخيرة، رأيت بعينى وشهدت المصداقية وهى تتجسد فى شخصه، غضبه وثورته فى وجه مسئول ظالم ليسترد حق مظلوم ليخرج من مكتبه منتصرًا، رأيت بعينى وشهدت بساطته وجمال روحه وهو يبادل المحيطين به الحديث، فيزرع المودة هنا ويرفع العزيمة هناك ويؤسس للإيمان بقضية مصر وشعبها وحقه فى العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية.
رحل خالد محيى الدين، رحل سعيدًا راضيًا لأن تلامذته وأبناءه بطول مصر وعرضها على طريقه سائرين.
--------
اقتباس: رأيت بعينى وشهدت بساطته وجمال روحه وهو يبادل المحيطين به الحديث، فيزرع المودة هنا ويرفع العزيمة هناك ويؤسس للإيمان بقضية مصر وشعبها وحقه فى العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية