رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ضحايا حرية الفكر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ما كان يبدو فى عصر من العصور من الحقائق المسلم بصحتها قد يراه عصر آخر من قبيل الأوهام والضلال، ولكن الإنسان شديد التعلق بالآراء التى نشأ عليها، والمعتقدات التى ألفها، ومن ثم يضيق صدرًا بالمصلحين والمجددين والكاشفين والمخترعين الذين يقدمون الآراء الجديدة، ويعملون على تغيير المعتقدات السالفة. وحتى اليوم قد يكون نصيب من يقوم بمثل هذه المحاولة السخرية والازدراء، أما فى العصر الوسيط فكان نصيبه الهوان والشقاء والنفى، وفى بعض الأحيان كان يُلحَق صاحب الرأى الجديد بطائفة المجرمين الآثمين الذين لا يجد المجتمع أمنه وراحته إلا فى الخلاص منهم والقضاء عليهم.
وفى القرن السادس عشر، كان لا يمكن احتمال أى رأى يخالف ما اصطلح على تقريره رجال الدين، وكان نصيب من يجترئ على إعلان مخالفته التعرض للعنف البالغ والعقوبة الشديدة؛ وقد تمثلت هذه النزعة فى صورة واضحة فى حياة كبير فلاسفة عصره، جيوردانو برونو، الذى يعد رمزًا لحرية الفكر حتى يومنا هذا.
قبل أربعة قرون أحرقت الكنيسة الكاثوليكية «برونو» فى ميدان الأزهار بروما، فى 16 فبراير عام 1600. وبدأت محاكمته عام 1592 ووجهت إليه تهمة الخروج على العقيدة المسيحية، والدعوة إلى نظرية كوبرنيقوس فى الفلك والاشتغال بالسحر، والتواصل مع بعض ملوك الدول الأجنبية الذين يهددون الكنيسة الكاثوليكية بدعوى «الإصلاح الدينى». كذلك قوله، إن لا نيهائية الله (فى الأزلية والأبدية والطبيعة) تتضمن لا نهائية الكون، وقوله أيضًا إن فى الأرض روحًا حساسة عاقلة، وأن فى الكون عوالم لا حصر لها، وأن الله يصنع العوالم باستمرار؛ لأنه يرغب فى خلق الكثير منها.
واللافت للنظر، أن «برونو» كان مؤمنًا بالكنيسة الكاثوليكية، ولكن إيمانه بها كان مشروطًا بتحفظين: أولهما، أن سيطرة الكنيسة فى مجال العقيدة والأخلاق تصلح للعاجزين عن توجيه أنفسهم. وثانيهما، أن السلطة الكنسية العليا ينبغى أن تسمح بحرية الفكر طالما أنه يؤمن فى الأساس بسلامة العقيدة المسيحية، وهذا يتعارض مع رفضه أى تسليم بالوحى على أنه حقيقة مسلم بها، كما يتعارض أيضًا مع رفضه النظر إلى الأخلاق المسيحية بوصفها سبيًلا إلى السعادة الإنسانية.
ومن هذا المنطلق، وجد «برونو» أن فهم الدين القائم على ازدواجية مطلقة (ازدواجية الله والكون، والروح والمادة) فهم خاطئ، لذلك لجأ إلى إحياء الديانة «الهرمسية»، حيث يتحد الإنسان بالله بوصفه كلى الوجود وفيضًا نورانيًا نابعًا من الضياء الإلهى، هذا الاتحاد ملأ عالم «برونو» بالمُثل، وجعل فى فلسفته الدينية مكانًا عظيمًا للسحر ليمكن الإنسان من الارتقاء بالسيطرة على ظلال العالم المادى.
لكن «برونو» عاش معظم حياته قلقًا مضطربًا يفتقر إلى الفطنة والكياسة الاجتماعية، إلا أنه لعب دورًا بالغ الأهمية فى إعادة صياغة الفكر الأوروبى إبان عصر النهضة فى القرن السادس عشر. قضى شبابه باحثًا عن الحقيقة، منقبًا عن المشكلات العلمية، من أجل حلها، وأنفق أخصب سنوات عمره فى مختلف أنحاء أوروبا؛ طالبًا ملاذًا آمنًا ليعبر عن أفكاره بحرية وهو آمن على حياته ونفسه من الاضطهاد، ولكن كـُتِبَ عليه – بسبب إيمانه بمبادئه ودفاعه عنها – أن يتحول إلى جائل فى أرض الله هائمًا على وجهه، يعرض نفسه للمخاطر أينما ذهب.
ولم يكن من المنتظر من رجل متدفق الحيوية، كثير النشاط، دائم التطلع أن يظل قابعًا فى صومعته، قانعًا بحياة التأمل الخالص والاسترسال فى التفكير العميق، ولم تكن حالة الكنيسة فى عصره ترضى رجًلا مثله موفور الحظ من الذكاء والمعرفة؛ لذلك دفعته وثباته الفكرية إلى الصدام مع رجال الكنيسة الكاثوليكية، حيث أنكر الثالوث، وقال إن الكون سرمدى وخالد، وأن العوالم فيه لا نهائية. ولعل أخطر اتهام وُجِّه إلى «برونو» هو سعيه إلى إقامة طائفة دينية جديدة. لقد رفض أن يؤمن بما رآه باطًلا، وأبى أن يرجع عما اعتقد أنه حق.
وظلت صورة «برونو» على هذه الحال فى القرنين السابع عشر والثامن عشر، ورافقته تهمة الإلحاد والإيمان بالمذهب المادى حتى القرن التاسع عشر، ومع قدوم القرن العشرين تغيرت الصورة تمامًا ونظر إليه البعض بوصفه شهيد الكنيسة الكاثوليكية، وظهرت أبحاث تاريخية تتسم بالموضوعية تشيد بفضل «برونو» على الفكر الإنسانى، وعكف على دراسة مؤلفاته عدد من المؤرخين والفلاسفة وفقهاء اللغة.