الإثنين 25 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

خالد محيي الدين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حين حملت حقيبتى على ظهرى، وأتيت من بلدتى إلى القاهرة فى منتصف الثمانينيات كى أدرس الدراما والفن، كنت أتطلع إلى ذلك الفضاء الفسيح المسمى بالقاهرة الذى يموج بكواكب ونجوم فى شتى المجالات، وكانت أحلامى آنذاك تتلخص فى لقاء بعض هذه الشخصيات التى شكلت جزءًا من تكوينى الثقافى، ومن بين هؤلاء كنت طامحًا فى لقاء الراحل العظيم خالد محيى الدين، لا سيما حين عرفت أن حزب التجمع ينظم عروضًا فنية وندوات تثقيفية بمقره فى وسط القاهرة، وذلك منتصف كل أسبوع، فقررت الذهاب إلى هناك لعلى ألمح طيف ذلك الرجل الذى طالما قرأت عنه وعن مواقفه الوطنية ودوره فى ثورة 52، وعلاقته بالرئيس عبدالناصر، وطلبت من زميل كان يسكن معى أن يرافقنى للذهاب إلى مقر حزب التجمع فأبى وحذرنى من مغبة هذا، لأن أجهزة الأمن ترصد كل من يذهب إلى هناك، ثم إن هؤلاء حسب وصفه مجموعة من الشيوعيين الذين لا يؤمنون بالله، وهو يخاف أن أنجرف وراء أفكارهم فأعود إليه ملحدًا، وأخذ يحاول إقناعى بنبذ الفكرة عن رأسى، والبقاء فى شقتنا الصغيرة الكائنة خلف أكاديمية الفنون بالهرم، لكن بيتًا من الشعر كان يحركنى وهو «يفوز باللذات كل مغامر.. ويموت بالحسرة من يخشى العواقب»، وقد أحسست بصدق هذا البيت حين دخلت إلى مقر الحزب لأجد أمامى السيدة فتحية العسال وهى تتحدث عن نضال المرأة المصرية، ولم يخطر ببالى يومها أن هذه الكاتبة العظيمة ستصبح صديقة لى، وأن مجلسًا لإدارة جمعية مؤلفى الدراما سيجمعنا سويًا لسنوات طويلة حتى وفاتها منذ عامين تقريبًا، وأننى سأشاركها كتابة بيان الجمعية مع الكاتب أبوالعلا السلامونى والراحل محفوظ عبدالرحمن قبيل ثورة 30 يونيو، الذى تعلن فيه الجمعية رفضها لحكم الإخوان، وظللت أنصت لفتحية العسال حتى دخل خالد محيى الدين وبصحبته رفعت السعيد وحسين عبدالرزاق، وجلسوا بين الحضور، ولما أصرت فتحية العسال أن يتقدم خالد محيى الدين إلى المنصة وافق على مضض، ثم دعته للحديث فكان حديثًا هادئًا ينم عن ثقافة موسوعية، فقد تحدث عن المرأة المصرية ودورها عبر التاريخ وعن كفاحها وخروجها فى ثورة 19، وتحدث أيضا عن المرأة العربية بشكل عام، وذكر العباسية زوجة هارون الرشيد، وأمه الخيزران، واستشهد بأشعار منسوبة لهند بنت عتبة، فشردت لحظة وتذكرت بعض الجهلاء الذين هاجموا ثورة 52 وضباطها ونعوتهم بالجهل وعدم الثقافة، فأنا أجلس الآن فى حضرة أحد المثقفين الكبار والذى كان ضابطًا بالجيش المصرى مثله فى ذلك كيوسف السباعى وثروت عكاشة وأحمد حمروش، هؤلاء الذين حملوا على أكتافهم لواء النهضة الثقافية فى الستينيات، تلك النهضة التى ما زلنا نقف على أطلالها حتى يومنا هذا، التى لا أظن أنها ستتكرر مرة أخرى، وانتهت الندوة وتحرك خالد محيى الدين وبعض الحضور إلى غرفة صغيرة بالطابق الثانى فتسللت بين الموجودين لعلى أحظى بمصافحته والحديث معه وسط هذا الزحام، وكنت أخشى أن يمنعنى أحدهم من الدخول وراءه، لكن هذا لم يحدث، فوجدت نفسى فى غرفة مليئة بالوجوه المألوفة، وأخذ خالد محيى الدين يتكلم عن التجربة الناصرية وعن مقالات كان يكتبها آنذاك إبراهيم سعدة، وكان يهاجم فيها حزب التجمع وخالد محيى الدين نفسه، وفجأة إذ بعبدالرحمن الأبنودى يقف على الباب مرددًا بصوت جهورى: «السلام على من اتبع الهدى»، فرحب به محيى الدين، وأجلسه إلى جواره، وطلب منه أن يلقى قصيدة بعينها، فراح ينشدنا بقصيدة طويلة حركت كل ساكن فينا واخترقت وجداننا، ثم التفت إلى رجل يحتضن عوده وقال له: «سمعنا يا عدلى»، وهنا أدركت أن ذلك الرجل ذو الشعر الأبيض هو عدلى فخرى وهو الامتداد الفنى للشيخ إمام، وهو أحد الفنانين الذين لم يلقوا اهتمامًا حقيقيًا بفنهم ولم تسلط عليهم الأضواء، وغنى عدلى فخرى «من قلب المزارع.. من ورش المصانع، صوت الشعب طالع، للحرية طالع» ووجدنا أنفسنا نغنى معه فى أمسية فنية رائعة، وخرج خالد محيى الدين بعض الوقت ثم عاد مرة أخرى، وكانت القاعة مكتظة بالحضور فنهضت من مكانى مقدمًا له مقعدى فرفض بأدب وتواضع شديد، ونهض العشرات مثلى من أماكنهم لإجلاسه، فأبى أن يحدث ذلك، وطلب من أحد العاملين أن يأتى له بكرسى من الخارج، وكان قدرى أن يوضع هذا الكرسى بالقرب منى فتسللت إليه وقدمت له نفسى فى رهبة فإذ به يرحب بى ويسألنى: «أنت قريب أمين سلامة المترجم؟» فنفيت ذلك، فأخد يحدثنى عن ترجمة أمين سلامة للإلياذة، فانبهرت بموسوعية ذلك الرجل، الذى نصحنى بقراءة الأساطير اليونانية، متمثلة فى الإلياذة والأوديسة، لأنهما سيفتحان الآفاق أمامى لأنهل من قصصهما إذا أردت أن أكون كاتبا دراميا، وكنت أتعجب من ذلك الرجل الموسوعى المتواضع والبسيط، الذى أهدر وقتا مع شاب لا يعرفه، وشعرت فى هذه الليلة أننى احتضنت نجوم القاهرة، ونسيت ما ذكره زميلى عن رصد الأمن لمن يذهب إلى مقر حزب التجمع وعن الشيوعية وخطرها، وأخذت أطوف فى شوارع القاهرة طوال الليل وأنا أكرر ما غناه عدلى فخرى بصوته العذب الجميل، وأتذكر كلمات خالد محيى الدين التى ظلت عالقة فى رأسى ولا أظن أني سأنساها يومًا، فقد مرت أمامى هذا الأسبوع حين قرأت خبر وفاة ذلك الوطنى العظيم.
------
اقتباس: كنت أتعجب من ذلك الرجل الموسوعى المتواضع والبسيط، الذى أهدر وقتا مع شاب لا يعرفه، وشعرت فى هذه الليلة أننى احتضنت نجوم القاهرة