تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
فى الصفحة الثالثة من عددها رقم 1243 الصادر صباح يوم الأربعاء الموافق 2 مايو 2018 وتحت عنوان «إحالة واصف الشعراوى بالدجال إلى التحقيق» ذكرت جريدة «البوابة» أن مجلس جامعة دمنهور قرر إحالة أحد أعضاء هيئة التدريس إلى التحقيق، لأنه وصف الشيخ محمد متولى الشعراوى بأنه «أكبر الدجالين الذين ظهروا خلال فترة الرئيس الأسبق حسنى مبارك»، وجاء هذا الوصف فى أحد كتب الأستاذ المذكور. إلى هنا انتهى الخبر.
بعد قراءتى لهذا الخبر تساءلت: هل من حق الجامعة إحالة عضو هيئة التدريس إلى التحقيق لمجرد أنه أبدى رأيًا فى شخصية عامة مثل المرحوم الشيخ محمد متولى الشعراوي؟ وإذا كان الأستاذ المذكور قد تجاوز حدود إبداء الرأي، ووصل به الأمر إلى درجة السب أو الشتم، فلماذا لم تترك الجامعة المسألة إلى عائلة الشيخ متولى الشعراوى أو أحد أفرادها للمطالبة أمام القضاء بالقصاص ممن سبه وشتمه؟ ما شأن الجامعة بهذا الأمر؟ هل هى محاولة لإعادة محاكم التفتيش إلى مصر رغم أننا نعيش فى القرن الواحد والعشرين؟
لقد ذكر رئيس جامعة دمنهور رفضه التام للإساءة إلى الشيخ الشعراوي، ونحن نضم صوتنا إلى صوته ونرفض الإساءة إلى الشعراوى أو غير الشعراوي، ولكن ما لم يقم بإيضاحه رئيس جامعة دمنهور هو ما إذا كان يقصد بهذا القول أن الشعراوى فوق النقد!! وأنه لا يجوز المساس به من قريب أو بعيد!! ومبررنا لطرح مثل هذا السؤال أن رئيس جامعة دمنهور قد ذكر أن الشعراوى «رمز من رموز الأزهر الشريف، وعالِم من علماء العرب والمسلمين». والسؤال مازال مطروحًا: هل أصبح «الشعراوي» يمثل سلطة دينية وفكرية يجب أن نخضع لها جميعًا؟
الخضوع لسلطة مفكر ما قد يتخذ شكل التمجيد، بل التقديس لشخصية هذا المفكر أو ذاك. إن أشهر أمثلة السلطة الفكرية والعلمية فى التاريخ الثقافى هى شخصية «أرسطو»، فقد ظل هذا الفيلسوف اليونانى الكبير يمثل المصدر الأساسى للمعرفة، فى شتى نواحيها، طوال العصور الوسطى الأوروبية، أى طوال أكثر من ألف وخمسمائة عام. كذلك كانت كثير من قضاياه تؤخذ بلا مناقشة فى العالَم الإسلامي، حيث كان يُعَد «المعلم الأول». والأمر الذى يلفت النظر فى ظاهرة الخضوع لسلطة مفكر مثل «أرسطو»، أن هذا الخضوع الذى يصل إلى حد التقديس قد جنى على الفكر والعلم، وأدى إلى تخلفهما ما يقرب من خمسة عشر قرنًا، كما أنه قد جنى على «أرسطو» نفسه جناية لا تغتفر: إذ إنه جمده وجعله صنمًا معبودًا، وهو أمر لو كان الفيلسوف نفسه قد شاهده لاستنكره أشد استنكار: إذ إن الفيلسوف الحق - و«أرسطو» كان بالقطع فيلسوفًا حقًا - لا يقبل أن يُتَّخَذ تفكيره وسيلة لتعطيل تفكير الآخرين وشل قدراتهم الإبداعية، بل إن أقصى تكريم للفيلسوف إنما يكون فى عدم تقديسه، وفى تجاوزه، لأن هذا التجاوز يدل على أنه أدى رسالته فى إثارة عقولنا إلى التفكير المستقل على الوجه الأكمل.
(د. فؤاد زكريا، التفكير العلمي، عالم المعرفة (3)، الكويت، 1978، ص81 – 82).
الشعراوى وغير الشعراوى من مفكرين وساسة ورجال دين وشخصيات عامة، ليسوا فوق النقد، غير أن «النقد» عندى لا يعنى أبدًا السب أو الشتم، أو التركيز على الجوانب السلبية وحدها، إنما يعنى الفحص العقلى لكل ما يُعْرَض علينا من أقوال وأفعال لبيان مواطن القوة وجوانب الضعف فيها. وإذا كان العلم هو سبيل التقدم، فإن النقد هو سبيل التحضر والرقي، لأن المجتمعات المتخلفة، ونحن فى مقدمتها - إذا كان للتخلف مقدمة - لا تعرف النقد، ولا تعرف معناه وبالتالى لا تمارسه. المجتمعات المتخلفة لا تعرف سوى أمرين: إما المدح السخيف المفضوح أوالنفاق الممجوج. نحن لا نعرف كيف ننقد نقدًا عقليًا، وإنما نجيد المدح أو السب.
والنقد كما أفهمه هو أبعد ما يكون عن هذين الأمرين. النقد الذى أعنيه هو التحليل العقلى للأقوال والأفعال للكشف عن محاسنها ومثالبها، ميزاتها ونقائصها، إذن الميزات والمحاسن تأتى أولًا قبل العيوب والنقائص. والنقد لا يعنى أبدًا إدانة شىء أو صب اللعنات على هذا الوضع أو ذاك، النقد ليس مجرد الرفض والنفي، ولا يصح أن يتحول من «نقد» إلى «نقض». وليس هو الاتهام والتطاول، ولا الصياح والصراخ. إنما هو الجهد العقلى والعملى لعدم تقبل الأفكار وأساليب الفعل والسلوك والظروف الاجتماعية والتاريخية تقبلًا أعمى. وهو جهد يُبـْذَل للتوفيق بين جوانب الحياة الاجتماعية والأفكار والأهداف العامة للعصر، وتمييز الحقيقى فيها من الزائف، والبحث فى أصول الأشياء والظواهر وجذورها وارتباطها بحقائق الواقع من حولها، أى معرفتها معرفة حقة.
على ضوء هذا المفهوم للنقد نتساءل:
أين التفكير الناقد الذى ينبغى أن نُعَلمه لأبنائنا فى الجامعات المصرية، وأن نعمل على نشره وترسيخه لديهم ؟ أين ذلك مما ذكره رئيس جامعة دمنهور؟ حين قال متحدثًا عن نفسه:
«إننى أدخل فى بكاء فور سماع الشيخ الشعراوى من خلال لقاءاته المسجلة على القنوات الفضائية والإذاعة المصرية»
رئيس جامعة مصرية يتخلى عن أى تفكير نقدي، ويستسلم لعواطفه ووجدانه، وينصت للشعراوي، ثم ينهمر فى البكاء، وكأن الشيخ الشعراوى لا يأتيه الباطل أبدًا. رغم أنه - مع كل تقديرنا لشخصه عليه رحمة الله - هو فى نهاية الأمر إنسان مجتهد يصيب ويخطيء.
----------------
اقتباس: الفيلسوف الحق - و«أرسطو» كان بالقطع فيلسوفًا حقًا – لا يقبل أن يُتَّخَذ تفكيره وسيلة لتعطيل تفكير الآخرين وشل قدراتهم الإبداعية، بل إن أقصى تكريم للفيلسوف إنما يكون فى عدم تقديسه