يتابع المؤرخ الفرنسى البارز هنرى لورنس، أستاذ التاريخ المعاصر للعالم العربى بالكوليج دو فرنس، فى كتابه الموسوعى مسألة فلسطين بقوله: وتصل حصيلة الأسابيع الثلاثة الأخيرة من ديسمبر إلى أكثر من عشرين قتيلًا فى الأراضى المحتلة، إذ تتباين الأرقام بين المصادر الفلسطينية والمصادر الإسرائيلية.
بحسب رابين، لا بد لاستعراض القوة واللجوء إلى الترحيلات وعمليات هدم البيوت أن تعيد إلى الجيش الإسرائيلى قدرته على الردع. وفى تواز مع هذا، فى ليلة ٢ - ٣ يناير ١٩٨٨، تؤدى سلسلة من الغارات الجوية على مواقع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة والحزب الاشتراكى التقدمى فى لبنان إلى مصرع ٢١ شخصًا، بينهم ٧ نساء و٥ أطفال، وإصابة عدد كبير من الأشخاص. والحال أن هذه العمليات الانتقامية، المتوقعة منذ العملية التى قامت بها الجبهة الشعبية لتحرر فلسطين - القيادة العامة، إنما تندرج فى منطق الردع هذا.
وقد أبدت الولايات المتحدة معاداتها لسياسة الترحيل، لكن رابين والحكومة الإسرائيلية عازمان على عدم الالتفات لهذا. ففى ٢ يناير ١٩٨٨، جرى توقيع تسعة قرارات بالطرد ضد «قادة نشيطين متورطين فى تنظيم أعمال تخريبية لحساب عمليات إرهابية»؛ وينتمى خمسة منهم إلى فتح بينما ينتمى أربعة إلى التيار الإسلامي. ويستعيد المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلى لأزمة انتقاء الخيار: «لا خيار أمامنا. لقد اتخذنا التدابير الأكثر قسوة لمكافحة أشد الناس تورطًا فى أعمال الفوضى». وعلى الفور ويدعو الأردن مجلس الأمن إلى الانعقاد. وخلال المناقشات التى دارت فى ٥ يناير، ولأول مرة، وعلى الرغم من اعتراض الولايات المتحدة والامتناع الأوروبى عن التصويت، يجرى توجيه الدعوة إلى ممثل منظمة التحرير الفلسطينية للمشاركة مستفيدًا من الحقوق نفسها التى يتمتع بها ممثل دولة عضو.
ويؤكد بنيامين نتانياهو، المندوب الإسرائيلي، أن تدابير الطرد تستند إلى ضرورة استعادة النظام العام كما تستند إلى القانون الموروث من عهد الانتداب البريطاني، وأن إسرائيل تعترف باتفاقية جنيف، لكنها لا تعترف بسريان مفعولها على الأراضى المحتلة، وإلا فيما يتعلق بجوانبها الإنسانية.
وبعد ذلك يتم اعتماد القرار رقم ٦٠٧ بالإجماع. وهو يستعيد لغة القرار رقم ٦٠٥ و«يلزم إسرائيل بالامتناع عن طرد المدنيين الفلسطينيين من الأراضى المحتلة». ويوضح المندوب الأمريكي، فى تفسيره للموافقة على القرار، أن بلاده تعترف بأن إسرائيل مسئولة عن حفظ النظام العام وبأن الطرد يتعارض مع اتفاقية جنيف التى تحظر أى إجراء من هذا النوع أيًا كان الدافع إليه. وهو يوضح أن صيغة «الأراضى الفلسطينية والأراضى العربية الأخرى المحتلة من جانب إسرائيل منذ عام ١٩٦٧، بما فيها القدس» لا تتميز إلا بقيمة ووصفية وديموغرافية وليست مؤشرًا على السيادة. ويجد الممثل الفلسطينى متعة فى التذكير بأن الصهيونيين كانوا قد وصفوا فى عام ١٩٤٥ القانون القمعى البريطانى بأنه أسوأ من التشريعات النازية.
والحال أن ياسر عرفات يحدد هدفًا للانتفاضة هو إنهاء الاحتلال الإسرائيلى وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، من الوارد أن تكون ضمن إطار اتحاد كونفيدرالى إقليمى قد يشمل إسرائيل نفسها. وهو يطرح علنًا إمكانية تشكيل حكومة فلسطينية فى المنفى، ثم يتمسك بعقد مؤتمر دولى على أساس كل قرارات منظمة الأمم المتحدة، وهو مؤتمر من شأن منظمة التحرير الفلسطينية أن تشارك فيه على قدم المساواة مع الأطراف الأخرى. كما يقترح وضع الأراضى المحتلة تحت وصاية منظمة الأمم بصفة مؤقتة.
ولا يدوم الهدوء النسبى طويلًا. ففى ٥ يناير، ترجع أعمال العنف فى غزة. وفى اليوم نفسه، نجد أن حنا سنيورة، رئيس تحرير صحيفة «الفجر» اليومية العربية الصادرة فى القدس، والذى يعتبر قريبًا من منظمة التحرير الفلسطينية، إنما يدعو إلى حركة واسعة للعصيان المدنى ولمقاطعة المنتجات الإسرائيلية. فيتخذ شيمون بيريز موقف التهديد: لا أعتقد أن هذه الحملة سوف تحدث، فالمقيمون فى الأراضى يدركون الحدود التى لا يجب عليهم تخطيها. وأى إنسان يؤلب الناس على التمرد إنما يفاقم الموقف. وأنا أعرف أن الفلسطينيين جد حساسون تجاه خطر اضطرارهم إلى مفارقة أراضيهم.
وفى ١٠ يناير، يظهر البيان الأول للقيادة الوطنية الموحدة لتصعيد الانتفاضة، والذى يثنى على الشهداء ويدعو إلى الإضراب العام وإلى العصيان المدني: «لنحرق الأرض تحت أقدام المحتلين، وليعرف العالم أن بركان الانتفاضة الذى أشعله شعب فلسطين لن يتوقف إلا بإنجاز الاستقلال بدولة فلسطينية وعاصمتها القدس.
وهذه القيادة الموحدة تجمع كل مكونات منظمة التحرير الفلسطينية وتعمل على تنظيم الانتفاضة بتشكيل لجان تهدف إلى الحلول محل الإدارة المدنية الآخذة فى الانهيار. كما يستخدم عرفات، فى تصريحاته العلنية، مصطلح الانتفاضة، الذى تستعيده الصحافة العربية، بينما لا تستخدم الصحافة الغربية سوى مصطلح الإضرابات.