تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
ليس ذنبي أنني واحد من كتاب "البوابة نيوز" حتى أصمت عن ما أريد قوله، وليس ذنبا لـ "عبد الرحيم علي أنه أسس هذا الموقع حتى يخرس كتّابه عن التعليق عن موضوع يخصّه، فالمتابع لردود الفعل الضارية على برنامج "الصندوق الأسود" لا بد أن يندهش من شيزوفرنيا المستثورين ومتثاقفي هذا الزمان.
فلم يحظ برنامج تليفزيوني باهتمام الناس والنخبة بعد برنامج "البرنامج" الذي كان يقدمه باسم يوسف سوى برنامج "الصندوق الأسود"، الذي يقدمه الكاتب الصحفي عبد الرحيم علي، والمتابع لرد فعل البرنامجين يلمح بوضوح تناقضاً مذهلاً لدى من يزعمون أنهم نخبة ثقافية وسياسية، فبينما هلّلوا لـ "باسم" الذي نجح في توصيل الإيحاءات البذيئة داخل بيوت الناس واعترضوا أشد الاعتراض على وقف البرنامج، فها هي نفس المجموعة تحاول الهجوم بكل الأدوات - المشروعة وغير المشروعة - لضرب برنامج الصندوق الأسود مطالبين بوقفه والاعتداء على مقدّمه.
وابتداء لا بد أن أشير إلى ملاحظتين: الأولى هي ما صرح به عبد الرحيم علي، حيث ذكر أن تلك التسجيلات تمت بإذن النيابة، وقد تجاهل الغاضبون هذه المعلومة وراحوا يهيلون التراب على ما جاء في نص المكالمات، أما الملاحظة الثانية هي علاقات مقدم البرنامج بوزارة الداخلية التي مكنته من الحصول على هذه التسجيلات، وبالرغم من المستتر في كلام الغاضبين حول علاقة مقدم البرنامج بالداخلية، فهنا لا بدّ من أن نعطي درساً مهنياً في الصحافة والإعلام حول ضرورة وأهمية المصادر لأيّة مادة إعلامية، ويعرف القريب والبعيد أن صحفياً دون مصادر هو صحفي لا قيمة له، وكلما وثق المصدر في مهنية الصحفي كلما حصل الصحفي على كنوز معلوماتية هي في الأساس حق للمواطن في المعرفة، لذلك فعلى أصحاب هذه النغمة أن يرحمونا من جهلهم النشيط.
نرجع إلى موضوع المكالمات الذي أزعج الكثيرين ما بين مؤيد ومعارض، ونلاحظ أن الذين صرخوا دفاعاً عن خصوصية البشر لم يعلقوا بحرف واحد على فساد متن المكالمات، وكأنها موافقة منهم على المضمون، وهو ما يرمي بظلال شكٍّ حول هؤلاء الذين قالوا عن أنفسهم إنهم أخلاقيون وهم أبعد ما يكونون عن هذا، وقد يضعهم موقفهم في الدفاع عن الفساد في خانة الأكثر فسادا.
أتذكر هنا واقعة مشابهة خاصة لمجموعة الخمسين المنكوبة التي وقعت على عريضة ولجأت إلى رئيس الجمهورية تطلب منه التدخل ووقف برنامج الصندوق الأسود بحجة انتهاك خصوصية الأفراد، فعندما قام جاهل بطعن نجيب محفوظ بسكين في رقبته تحت دعوى أنه كاتب كافر، ودلل على ذلك برواية "أولاد حارتنا" الممنوعة من النشر، يومها تصدت جريدة الأهالي - بمبادرة من الشاعر الراحل حلمي سالم - لتصدر الرواية كاملة في عدد خاص من الجريدة، طبعنا منها 100 ألف نسخة، تكلفت طباعة النسخة الواحد أكثر من جنيهين، ونزلت إلى الأسواق بجنيه واحد كرسالة منا إلى الإرهابيين بأننا لا نخاف سكاكينكم ولا طلقات رصاصكم، وبالمناسبة كنت - أنا ومعي عبد الرحيم علي - في ذلك الوقت نعمل كصحفيين في الأهالي، وأتذكر أن يوم صدور "أولاد حارتنا" اجتمع متثاقفي الغبرة وأصدروا بياناً، ليس تحية لنا على موقفنا ولكنه هجوم علينا لأننا اعتدينا على حق المؤلف، ونسوا تماماً حق التقدم والوطن.
وما أشبه الليلة بالبارحة، فالمعارضون لبرنامج الصندوق الأسود يدافعون عن شلّتهم ومصالحهم الضيقة ويرتكبون الجريمة الكبرى عندما يربطون ثورة يناير بشخص أو مجموعة أشخاص، فيقولون إن فضح فلان هو تشويه للثورة، ويتعامى هؤلاء عن معلومة بديهية وهي أن الثورة قادها شعب عظيم تعداده ٩٠ مليونًا، وأن الشخص أو مجموعة الأشخاص الذين يدافعون عنهم هم مجرد أرزقية وسماسرة نضال، ودليلنا على تفاهة فكرة الاعتراض على برنامج الصندوق الأسود هو أن مصر شهدت - قبل شهور - واقعتين للتسريب الصحفي، يومها هلل المرتزقة للواقعتين وقال البعض عنهما إنهما انفرادان صحفيان مهمّان، الواقعة الأولى هي تسريب من طبيب بمستشفى المعادي قام بالتسجيل للرئيس الأسبق حسني مبارك دون علمه وتم بيع التسجيل والتهليل له، والواقعة الثانية هي تسجيل للرئيس السابق محمد مرسي فترة احتجازه في موقع عسكري وتم نشر التسجيل وقال الجميع إن هذا عمل رائع فمن حق الناس أن تعرف، لم نر بلاغاً للنائب العام يدافع عن ما يزعمون أنها خصوصية، ولم نر حملة منظمة - مثل التي نراها الآن ضد برنامج عبد الرحيم علي الذي تناول شخصيات كرتونية تم نفخها كالبالونات في الزمن المرتبك - تأخذ موقفاً من الواقعتين.
ويبدو أن هذا السجال سيبقى طويلاً، فعند حدود الوطن وأمنه تهون المصائب، ومن بين تلك المصائب شيزوفرونيا المتثاقف والمستثور وأبناء الدولار.