لا يستطيع أحد أن ينكر أن الوفد جزء من الضمير الوطنى العام تراثيًا، فقد كان الحزب هو ثانى الأحزاب بعد حزب مصطفى كامل، لكن منهجه السياسى والجهادى مختلف، ورغم اقتراب ذكرى مرور قرن على إنشاء هذا الحزب إلا أنه كان الآلية الديناميكية التى أيقظت الشعب المصري، واستطاع رجاله أن يكونوا طليعة الجهاد، وإذا كان الوفد فى مراحله الأولى تم تفكيكه لعدة أحزاب لكنها رغم عبقرية الساسة ودهائهم وتاريخهم الوطنى إلا أنهم عجزوا عن صنع الشعبية التى حظى بها حزب الوفد بزعامة سعد زغلول.
اعتمد الوفد على إعلاء سلطة الأمة فوق الحكومة، والحق فوق القوة وغيرها من الأدبيات التى مكنته من التربع على ضمائر المواطنين وقلوبهم ومحبتهم، صحيح أن حزب الوفد تعرض لاختبارات قاسية لدرجة أنه قبيل ثورة يوليو توجه عدد من الشباب أبناء الباشوات يطلبون من الزعيم مصطفى باشا النحاس أن يصبح الحزب (حزب الوفد الاشتراكي)، واستطاع النحاس باشا أن يمتص غضب هؤلاء الشباب، وإذا لم تقم الثورة لقام النحاس صاحب المقام الرفيع بالإعلان عن صياغة توفيقية بين المنهج الليبرالى والتيار الاشتراكى الذى ملأ الساحة على أيدى الشباب، ومعلوماتى أن واحدًا من هؤلاء الشباب الذين فاوضوا سعد زغلول والنحاس فى إعادة صياغة المنهج الحزبي، وهو المناضل العظيم الذى أسس مدرسة فكرية من كتيبة من المناضلين وتعرض بسبب أفكاره للسجن والتعذيب ليس هو، ولكن نجله هذا المناضل هو الدكتور حسونة حسين شلبي، وتعرض هو ونجله القانونى الراحل عادل حسونة، والمحامى السكندرى حمدى مرسى وزوج كريمته وأصهاره سعيد أبو طالب، ومحمد هريدى، ومن رواد هذه المدرسة المفكر الكبير والقطب العقائدى الدكتور رفعت السعيد.
وحزب الوفد الجديد حاول أن يكون الامتداد الجماهيرى على الساحة السياسية، وبدأ بمحاولات من الزعامة التاريخية فؤاد سراج الدين باشا الذى اكتشف المراقبون والساسة أنه رغم ابتعاده عن الأضواء أكثر من ربع قرن إلا أنه ظل يتمتع بحضور طاغٍ وجاذبية، ثم صدر القانون رقم 33 لعام 1878مـ الذى سارع مجلس الشعب إلى إصداره بحرمان الشخصيات التى (أفسدت الحياة السياسية) قبل ثورة يوليو من العمل السياسى، وبدأ حوار الثعالب بل وصدامهم وتثعلب السادات الذى كان يريد ديمقراطية أبوية رعوية باعتباره كبير العائلة المصرية، وبين فؤاد باشا سراج الدين ودهائه السياسى الذى يريد إحياء الحزب القديم من جديد، ولم يساعد السادات فى نشأة الحزب الجديد الذى قام بناءً على طلب عشرين عضوًا من مجلس الشعب، وآخر مَنْ وقع على التأسيس وهى العضو العشرين كانت النائبة رزقة البلشى نائبة مينا البصل بالإسكندرية وسط ذهول من كبار المسئولين فى الدولة لهذه السرعة التى قام بها حزب الوفد، وقد وضع الدكتور مصطفى خليل آخر أمين للاتحاد الاشتراكى الذى كان رئيسًا للجنة تأسيس الأحزاب، وذلك بعد حصوله على موافقة ضمنية من الرئيس السادات على قيام الحزب، لكن فؤاد سراج الدين تغدى بالسادات سياسيًا قبل أن يتعشى هوه به حيث كان قد خرج من معركة فى الشارع حول مقعد مجلس الشعب فى دائرة الجمرك بالإسكندرية بعد اسقاط العضوية عن الشيخ عاشور نصر الذى هتف تحت قبة البرلمان وهو نائب عن الوفد «يسقط أنور السادات»، ودارت المعركة الساخنة، وحدثت المواجهة السياسية بين حزب مصر برئاسة ممدوح سالم أنزه رئيس وزراء عرفته مصر، وبين فؤاد سراج الدين وسبقها من قبل هجوم من فؤاد سراج الدين على شخص ممدوح سالم، وهو هجوم سياسى الغرض منه استدراجه لمعركة سياسية حين قال «إننى عندما كنت وزيرًا للداخلية أقول دائمًا إن ممدوح سالم عفيف اليد واللسان، وبعد أن هاجمنى أقول إنه يبدو فقد إحدى العفتين»، واشتعلت المعارك السياسية، والقانون الذى صدر بغرض إزاحة فؤاد باشا سراج الدين عن الساحة بصفة خاصة، وإزاء هذا الوضع قام فؤاد باشا بدهائه بالمبادرة فى الدعوة لعقد اجتماع عاجل لهيئة المكتب أعلنوا فيه قرارهم بحل حزب الوفد الجديد وأسقط الأمر فى يد السادات، وتم تدبير قضية على إثرها قبض على فؤاد باشا ومعه اثنان من العاملين بقطاع النقل البحرى وتحديدًا مصلحة الموانئ، وهما إبراهيم عاشور وفهمى النحاس، والذى وصفه الرئيس السادات فى خطابه بأنه (لويس السادس عشر)، وبعد خمس سنوات من هذه الواقعة والمصالحة التى أجراها حسنى مبارك فور توليه الحكم عاد الوفد وحصل على حكم من المحكمة الدستورية العليا لصالح الوفد، وخاض الانتخابات البرلمانية متحالفًا مع الإخوان وحصل الوفد على 58 مقعدًا، وتولى زعامة المعارضة فى المجلس الذى رأسه الدكتور رفعت المحجوب، والغريب أن حزب الوفد حل نفسه قبل إحالة اتفاقية كامب ديفيد لمجلس الشعب للتصديق عليها، وهو موقف سياسى ذكى من الحزب، بل إن حزب الوفد يكاد يكون الحزب الوحيد الذى يعتبر اتفاقية كامب ديفيد منعدمة، ومؤكدًا الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
ومر الوفد بعدة تجارب منها ما تردد من خلاف بين (الوفديين) و(المستوفديين)، واندمج فى الحياة السياسية، وتفاعل معها حتى قبل وبعد ثورة يناير 2011مـ فقد تم (توزير) لبعض قياداته أو أشقائهم حتى تم توزير من رأس تحرير الوفد، وترجمت الانتخابات الأخيرة لحزب الوفد أنه مصمم على أن يواصل مسيرته السياسية بطريقة ديمقراطية فى اختيار مَنْ يمثله فى مقعد القيادة، وتم اختيار المستشار الجليل بهاء الدين أبو شقة، وهو فقيه ويتولى رئاسة اللجنة القانونية والتشريعية تحت القبة، ولاشك أنه يتميز بالمرونة والرؤية العصرية خاصة فى التشريعات العقابية، والمسئولية الأكبر هو الاستعداد لمئوية حزب الوفد التى بدأ العد التنازلى لحلولها بعد أقل من عام، وواجب رئيس الوفد الجديد أن يعيد للأذهان مرحلة مهمة فى تاريخ كفاح ونضال شعب مصر، فنريد أن نرى حزبًا قويًا تؤمن به جماهير البسطاء لتثرى الشارع السياسى، حتى ولو خرجت تقول المأثورة.. «يعيش الوفد ولو فيها رفد».