الإعلامي المحترم الأستاذ عماد الدين أديب من بين الإعلاميين الذين أحرص على متابعتهم في برنامجه "بهدوء"، وهو لون من الـ "توك شو" رفيع المستوى، والمتابع للبرنامج يجد لدى البرنامج أكثر من ضيف، إلا في حالات نادرة يقوم فيها الأستاذ عماد بالحلقة كلها بمفرده، وعادة ما يكون وراء هذا التقديم المنفرد أمر مهم مطلوب توصيله إلى أولي الألباب إزاء حدث مهم أو قضية حساسة متداولة.
شغلني عن العزف المنفرد للأستاذ عماد حلقتين: الأولى كانت بعد خروج مصر الأبهى في 26 يوليو شهر الكرامات، وكانت مصر قد خلقت مخلصها التاريخي ومنقذها في الملمات، وتجسد لها في شخص "السيسي" بشراً سويا، حاملة في مخيالها الشعبي أن مخلصها آت بالضرورة، لأن الله لا يرضى لمصر الخراب والزوال لأنها كنانة الله في أرضه ولأنها كانت دار لجوء لأنبياء مختلف الشعوب: إبراهيم ويوسف ويعقوب والأسباط وموسى والمسيح، ومصدر عطاء لجيرانها زمن السنين العجاف، ولأنها كانت مصدرا ومولدا لفكرة البطل المنتظر ومنها نادى "يهوه" ابنه "يسوع" وبارك شعبها، منذ أوزوريس المنقذ المخلص من الظلم الذي نهض حيا بعد أن مات غدراً، فقالوا عنه: سلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم بُعِث حيّاً، لأنه جاء إلى مصر بالسلام والنعمة والأمن والرخاء والعدالة، وظل المصريون من بعدها ينتظرون مخلصهم بعدما رأوه رأي العين أسداً هصوراً تجمعت فيه صفات البطولة الشعبية: من فداء للشعب وجسارة وإقدام مع تعفف سماوي الفطرة في تشكيل إنساني رفيع اسمه الفريق السيسي.
خصص الأستاذ "عماد" هذه الحلقة لتقديم سيرة ذاتية لبطل حلم المستقبل الآتي، عن حياة عبد الفتاح السيسي، وهي سيرة تحمل - طبقا للأدبيات الفرعونية والمخيال الشعبي للبطل المنقذ في الملمات - تطابقا مذهلا، فهو من أواسط الناس، تربّى في بيت مصري طيب، لم يُعرف عنه ما يشين، وسلك مسلك النبوغ العلمي والخلقي، واتخذ قرارا هائلا بطوليا بانحيازه إلى إرادة الشعب، رغم أنها كانت مغامرة كبرى غير مأمونة العواقب، حتى وصوله إلى موقع في التاريخ يتوافق معياريا مع مقاييس البطل المنتظر والمخلص التاريخي الحي في القلب المصري.
وقد بدا لي حين قدم الأستاذ "عماد" العرض المشرِّف لسيرة الفريق، أنه عملية تسويق للفريق السيسي كمرشح محتمل لرئاسة الجمهورية، وبدا لي ذلك إيماء من الفريق السيسي لرغبته في استكمال مهمته التاريخية العظمى بحمل العبء كله، ومن جانبي قررت قبول بعض الدعوات التلفازية - رغم عزوفي الدائم، مع كبر السن - كي أعلن لمن يرى لكلمتي شأنا يعنيه، دعمي الكامل لترشح الفريق السيسي للرئاسة، كحل خلاصي لاستعادة مصر التي نعرفها بشارعها الآمن المسالم واستقرارها الاقتصادي واستعادة السياحة والاستثمار، وهي بغير وجود رجل كـ "السيسي" على رأس السلطة تصبح مجرد أحلام بعيدة المنال، إزاء أطراف خارجية وعملاء سريين وعلنيين في الداخل، وتخريب وإرهاب وانفلات أمني لم يسبق لنا أن عرفناه، وقررت من جانبي تصديق الذائقة الوطنية للمصريين التي حددت الفريق السيسي كعقد رابط للجميع، لعبور الطريق الصعب وقبولهم بالصعوبات المتوقعة مع وجود الضامن للخلاص، المخلص التاريخي.
العزف المنفرد الثاني للأستاذ عماد أديب، كان في أخريات ديسمبر 2013، وهي بدورها تحمل أخباراً ودلالات شغلتني ورأيت أن أضعها أمامكم لأنها تشغلكم بالضرورة، كرس الأستاذ عماد الحلقة - فيما يبدو ظاهريا - لمناقشة أمر ترشح الفريق للرئاسة من عدمه، وكان واضحا لأولي الألباب – مرة أُخرى رغم حجج أصحاب فكرة الترشح وأصحاب فكرة عدم الترشح - أن الحلقة قد تم ترتيبها بدقة لتقديم الأسباب التي ترجح عدم ترشح الفريق السيسي للرئاسة، وأن كفة حجج عدم الترشح هي الأقوى والأسلم، وأهم سبب ظهر لي بين كل الحجج هو أن موقع الفريق على رأس الجيش سيجعل الجيش بمثابة الحكم العادل بين المصريين والضامن لسلامة العملية السياسية، وسلامة الوطن وحماية القانون والدستور، والحلقة تبدو لي كما بدت سابقتها توجيها من الفريق السيسي، وأنه اختار الانحياز مرة أخرى إلى ضمان أمن الشعب وهو يصنع مستقبله بنفسه، بغض النظر عن شخص الفريق الذي لا يرى نفسه سوى مؤدٍّ لدور تاريخي مقدور له، ليسجل اسمه إلى جوار المناتحة والتحامسة والرعامسة - نسبة إلى ملوك مصر القديمة الذين حملوا أسماء أمنمحات وتحتمس ورمسيس - المسجلين على فقرات عمود التاريخ الإنساني.
لكن شخصي العجوز المعجون بنبض الشارع المصري، والمطحون سابقا بالإخوان والسلفيين وكل الإرهابيين ويعلم ما سيعملون - كما سبق له التوقع منذ سنوات طوال وحدث ما توقعه واضحا جليا صادما - يرى أن عدم ترشح الفريق السيسي سيكون صدمة للشعب المصري ولن يتقبل شكل المرحلة التالية قبولا حسنا، وسيكون تراجع الحلم بالبطل المنقذ التاريخي مُسبِّباً لارتباك شديد في محاولة تصور شكل الآتي والبطل ليس على رأس الأحداث، خاصة بعد فقد الثقة في معظم الوجوه والرموز السياسية بعد انكشاف محدودية البعض وفساد البعض وخيانة البعض ممن كانوا رموزا لثورة 25 يناير، وهو ما يؤدي إلى القنوط والسلبية والانسحاب والانسحاق، وسيتسبب في مشكلة حقيقية أمام المصريين لاختيار رئيس غير الشخص الذي اختاروه لأنفسهم، في مشهد إعجازي لم يضعوا له بدائل أخرى ولا خططا بديلة من باب التحوّط، وضعوا كل الأحلام في كفة السيسي كقدر ليس منه مفر وليس لغيره قبول - ولا لمجرد الاحتمال - وربما طال هذا الأمر وأحدث فراغا وأزمة سياسية حقيقية، وربما خلا منصب الرئاسة لفترة تؤدي إلى مزيد من النكسات، وهو ما يتطلب من سيادة الفريق أن يحسم أمره فوراً والآن ودون تأخير: إما بالقبول ليبدأ الشعب المصري كرنفالات أفراحه وسعادته، وإما بالرفض حتى يأخذ الناس فرصة استيعاب الاستيقاظ من مخيالهم على واقعهم المرّ، ولملمة شتات أملهم المبعثر، وإعطاء الفرصة للآخرين للتفكير في بدء عرض برامجهم على الناس.
والوطن والمواطنون وحدهم من وراء القصد.
على وعدي مع قارئي لاستكمال ما كتبت خلال الأسبوعين الماضيين، واضررت للقطع لضرورة الموضوع هنا زمنيا.
التالي: "المعادلة المصرية".