لا أظن أن استراتيجية الدولة المصرية لبناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة قد تؤتى ثمارها طالما ظلت مبادرتها لتجديد الخطاب الديني، تراوح مكانها، ولا تجد من مستجيب لها.
فكل مشروع للتحديث يتطلب ثورة ثقافية تطيح بالموروث الذى يقيد العقل ويزيف الوعي، وللأسف لا يزال الفقه القديم يسيطر على العقول ويربطها بزمانه بما فيه من قيم مغايرة، وطبيعة مختلفة للنظم السياسية والعلاقات الاجتماعية بخلاف ما اكتسبه من قيم ومفاهيم سادت خلال فترة الاحتلال المملوكى والعثمانى لمصر، أحط فترات تاريخنا.
البعثات العلمية التى أرسلها محمد على باشا إلى فرنسا وغيرها لخلق نخبة دينية وثقافية جديدة كانت كلمة السر لنجاح مشروعه التحديثي، دونها لم تكن استراتيجيته لبناء جيش مصرى حديث، وإعادة تنظيم الحرف، وتشييد القناطر، وشق الترع لإنجاز نهضة زراعية رائدة، لتنجح فى بناء الدولة المصرية الحديثة التى نعرفها.
صحيح أن تلك النهضة قد أنتجت رموز تيار التنوير بدءًا من رفاعة الطهطاوى وحتى طه حسين، إلا أنها ما لبثت تأخذ فى الخفوت بسبب عوامل تاريخية عدة، منها مقاومة مدرسة الفقه القديم داخل الأزهر الشريف لهذا التيار بكل ما أوتيت من القوة، وظهور الجماعات الإسلامية الإرهابية وفى القلب منها جماعة الإخوان، وشيوع المذهب الوهابى المتشدد، ومن تلك العوامل أيضا إنشاء جامعة الأزهر لتخرج الطبيب المسلم والمهندس المسلم علاوة على العلوم الشرعية التى يكتفى أساتذتها بنقل فقه الأقدمين دون إبداع فقه جديد أو محاولة لتقديم اجتهاد معاصر، فكانت النتيجة خلق كيان يحاكى منهج جماعة الإخوان لا ينقضه أو يفنده.
وبلغنا مرحلة شهدنا فيها تكفير مجتهد وعالم بحجم دكتور نصر حامد أبو زيد رحمه الله، وتحريم تهنئة المصريين المسيحيين بأعيادهم علاوة على تكفيرهم، وتحريم تحية العلم الوطني، وصولا إلى فتاوى إرضاع الكبير.
وأصبحت الفتوى بالتكفير واستباحة الدم تطال الجميع، فها هو الشيخ عبد الحميد الأطرش الرئيس السابق للجنة الفتوى بالأزهر الشريف يفتى بتكفير المفطر فى رمضان وحل دمه أثناء حديثه مع الإعلامى عمرو عبدالحميد على قناة «ten» ببرنامج «رأى عام» وكان ذلك أثناء سؤاله عن مدى جواز إفطار لاعبى المنتخب المصرى لكرة القدم أثناء مشاركتهم فى كأس العالم بروسيا، وقال لا يجوز الإفطار لمسافر إلا إذا كان ذاهبا للعمل أو لطلب العلم أو الجهاد وتحرير القدس.
وصحيح أنه أوضح فى تصريح لاحق أنه قصد بفتواه كل من أنكر الصيام وليس أعضاء الفريق المصرى، وإن استشهد بالشيخ الشعراوى بتحريمه الإفطار على لاعبى كرة القدم، لأنه لا طائل منها، متجاهلا حقيقة أن كرة القدم ليست مجرد لعبة للترفيه، وأنها أصبحت مجالا للعمل بل ولتشغيل الآلاف فى فلكها.
الشيخ عبدالحميد أكد أن مفطر رمضان يستتاب 3 أيام، فإن لم يتب يقتل، وهو بذلك يعتدى على الفقه ذاته الذى لم يجمع على تطبيق حد الردة، ومع ذلك ماذا إذا قرر إنسان أن يفطر فى رمضان ولم يعلن ذلك ولم يدع الناس إليه؟ وعلم الشيخ بالمصادفة أن هذا الرجل ينكر الصيام هل من حقه تطبيق حد الردة حتى لو كان هناك إجماع فقهي؟! أم أن الأمر فى هذه الحالة يدخل فى إطار حرية الاعتقاد التى نص عليها الدستور المصري؟ بل إنه لو جهر بمعصيته ودعا الناس لاتباعه، فهناك قوانين سنها المجتمع للدفاع عن قيمه وتقاليده ليس من بينها استتابة حد الردة.
مؤسسة الأزهر رفضت تكفير داعش رغم جرائمه الوحشية واسباحته الأعراض وقتله آلاف المسلمين، بينما هم لربهم ساجدون فكيف تقبل استمرار هذا المنهج مع من هو أقل إجراما من الدواعش.
قبل أيام وقعت الحكومة المصرية مع البنك الدولى اتفاقية تحصل بموجبها على قرض قدرة 500 مليون دولار لتنفيذ استراتيجيتها لتطوير التعليم، والتى تهدف كما قال دكتور طارق شوقى وزير التعليم إلى إنتاج طالب يتعلم ويفكر ويبتكر، فهل يمكن لهذه الاستراتيجية أن تنجح بينما نحن مازلنا نعيش تحت وطأة خطاب دينى يكفر الابتكار ويعتبره بدعة ويحرم التفكير ويتمسك بمنهج التكفير؟!
هل يمكن أن تنجح هذه الاستراتيجية بدون تطبيقها على التعليم الأزهرى بكافة مراحله ودون دمجه مع التعليم العام؟!
لا ينبغى أن ننظر إلى تدشين الأزهر مركزا إلكترونيا للفتوى دربا من دروب التشديد، فالمحتوى لا يزال قديما ومتأخرا، وبات على الرئيس عبدالفتاح السيسى مطلق مبادرة تجديد الخطاب الدينى ألا يكتفى بمحاججة شيوخ الأزهر أمام الله يوم القيامة كما قال فى خطاب سابق.