فى عالـَم الحيوان لا خفاء ولا غموض، وعالـَم الحيوان تسوده الأحاسيس البسيطة والعميقة، ولكن هذه الأحاسيس تقف عند حدود الحواس، ومن ثمَّ فإن الحيوان يقف عند الحاضر ولا يتجاوزه إلى المستقبل، فالأسد الجائع يعتريه التوتر نتيجة لهذا الجوع، ولذلك يسعى إلى دفع هذا التوتر والتغلب عليه بحثًا عن طعام، فيبحث عن فريسة وينقض عليها ويلتهمها بنهم شديد حتى يشبع ويزول جوعه.
قد يتبقى جزء من لحم الفريسة، يتركه الأسد وينصرف غير عابئ، لأنه فى هذه اللحظة الحاضرة شبع وامتلأ بطنه بالطعام، فلا حاجة به للاحتفاظ ببقية لحم الفريسة إلى الغد، هو لا يحتفظ بما تبقى من طعام، لأنه لا يفكر فى أنه ربما يجوع غدًا ولا يجد فريسة جديدة، إن الأسد وبقية أفراد المملكة الحيوانية لا تسلك على هذا النحو، الحيوان لا يعمل حسابًا للغد، لأنه يعايش الحاضر ويعجز عن تجاوز اللحظة، هو «يعيش اللحظة» بعمق وحيوية وتدفق، هو محكوم بوظائف بيولوجية معينة تدفعه دفعًا للسلوك على نحو دون غيره.
أما الإنسان فهو وحده دون سائر الحيوانات الذى يتطلع للمستقبل، إنه يخطط ويدبر وينشغل ويتوتر من أجل «المجهول» من أجل واقع لم يتحقق بعد، لذلك يحافظ على طعامه ويحتفظ بما تبقى منه للغد، لأنه «لا يدري» ما الذى سيكون عليه الحال غدًا، بل قد يحتفظ بما يفيض عن حاجته غدًا وبعد غد. من هنا تولد الصراع الناجم عن فكرة «الاكتناز» أو «التخزين».
فأنا أرغب فى الحصول على حاجاتى وما يتجاوز هذه الحاجات أيضًا، وأنت بالمثل ترغب فى تحقيق الغرض نفسه، بينما نجد أن المتاح من الطعام أو المال محدودًا. من هنا ينشأ الصراع والاقتتال بين الناس.
وليس غائبًا عن البال تلك الثروات الطائلة التى يحققها بعض الأشخاص، حتى أنك تجد ثروة أحد الأشخاص تجاوزت مئات المليارات من الدولارات.
ثروة ضخمة وهائلة تتجاوز احتياجات ذلك الشخص واحتياجات أولاده وأحفاده حتى قيام الساعة!! لماذا كل هذا؟ وما هى الأساليب التى جُمِعَت بها هذه الثروة؟ وعلى حساب من من البشر الآخرين جُمِعَت كل هذه الأموال؟
بل الأدهى والأمـرّ هو ما يحدث من تخزين للأسلحة، كل الدول تُخزن كميات هائلة ومتنوعة من الأسلحة، حتى الدول الفقيرة المعدمة، التى تعجز عن توفير الطعام لمواطنيها، تجد أنها لا تعجز عن تكديس الأسلحة الفتاكة بمخازنها!! فما بالنا بالدول العظمى؟ كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وأغلب دول أوروبا، وكذلك إسرائيل ومصر وإيران والسعودية.. إلخ.
تصور معى عزيزى القارئ لو أن كل هذه الأسلحة المتكدسة فى المخازن انطلقت أو أُطلِقت أو انفجرت فى لحظة واحدة تجاه كل البشر والحجر فى العالـَم، فما الذى سيحدث لعالـَمنا البائس هذا الذى نعيش فيه؟! لا شك أنه سوف يتم تدمير العالـَم وقتل كل البشر وبقية الكائنات الحية، لا مرة واحدة، وإنما عشرات المرات!!
عالـَم الحيوان إذن هو عالَم الحاضر والتصرف حيال هذا الحاضر. والتواصل الحيوانى هو تواصل حسى آنيّ (على مستوى اللحظة)، فإذا قذف صبى كلبًا بحجر، وأصابه إصابة شديدة، صدرت عن ذلك الكلب صيحات تعبر عن شعوره بالألم، لكنه لا يستطيع بعد ذلك أن يتناقل- بعد يوم أو أسبوع أو شهر أو سنة- مع بقية أفراد نوعه تفاصيل هذه الحادثة، وكيف أنه كان يسير فى أحد الشوارع أو إحدى الحارات، وتصادف وجود صبى شقى لعين، التقط حجرًا من الأرض وقذفه به، فسبب له ألمًا شديدًا.
الإنسان يشترك مع الحيوان فى التعبير المباشر عن الإحساس بالألم، فالإنسان حين ترتطم ساقه بشدة بجسم صلب أثناء السير فى الظلام، فإنه يصرخ مطلقًا صيحة شبيهة بالصرخة التى أطلقها الكلب حين قُذِفَ بحجر، بل إن صيحة الألم: «آ آ آ آ آ آ آ آى» هى واحدة عند كافة البشر، على عكس الكلمات التى تتعدد بتعدد اللغات التى يتحدث بها الناس.
الاختلاف بين الإنسان والحيوان هو أن الإنسان وحده الذى يستطيع التعامل مع الأشياء فى غيابها. فهو يستطيع أن يحكى غدًا أو بعد غد لأصدقائه ما وقع له أثناء سيره فى الظلام حين انقطع التيار الكهربائي، وكيف ارتطمت ساقه بأحد الكراسى مما سبب له ألمًا شديدًا.
إن الإنسان بفضل ما يملكه من تصورات ذهنية للأشياء فى غيابها عن طريق رموز يخلقها بشكل تعسفي، ويطورها دومًا، بفضل هذا تمكن الإنسان من بناء الحضارات.
وإذا كان الإنسان لا يقف عند حدود الحاضر فقط، بل يجول فى الماضى ويتطلع إلى المستقبل، فإن هذا أدى كما ذكرنا لنشأة الصراع والاقتتال بين البشر، ولكننا إذا نظرنا إلى النصف المملوء من الكوب، سنقول إن القدرة على استرجاع الماضى واستشراف المستقبل لدى الإنسان هى ما أدى إلى قيام الحضارات.