تمتعت مصر والشام بين دول العصور الوسطى فى الشرق والغرب بمكانة مرموقة خلال عصر سلاطين المماليك (648-923هـ/1250-1517م). ومع ما شكلته هذه الدولة من بناء سياسى كبير، إلا أنها اشتملت على بناء اجتماعى متباين وطبقات شعب متعددة شغل السلطان المملوكى والأمراء المماليك الطبقة العليا فيها، ثم تبعهم بقية طبقات الشعب المصري، وكان طبيعيـًا أن يحتل هؤلاء المماليك أعلى وظائف الدولة، أما حياتهم الاجتماعية فقد كانوا منعزلين نسبيـًا عن المجتمع الذى حكموه وظلوا لسنوات عدة ومنذ نشأتهم لا يشاركون فى الحياة الاجتماعية المصرية إلا من خلال المواكب السلطانية والأعياد الدينية والاحتفالات، ومنذ عصر السلطان الظاهر برقوق بدأ المماليك ينزلون من طباقات القلعة ويسكنون القاهرة ويتزوجون من المصريات.
أما أبناء المماليك الذين ولدوا فى مصر ولم يمسهم الرق ولم يُجلبوا إليها مع النخاسين، فقد عُرِفوا فى مصطلح ذلك العصر باسم «أولاد الناس»، وكانت مكانتهم الاجتماعية أدنى من الأمراء المماليك، فهم فئة خرجت من قلب طبقة المماليك لتصبح فئة من فئات الشعب المصرى فى العصر المملوكي.
كانت هذه الطبقة إحدى لبنات البناء الاجتماعى فى عصر سلاطـين المماليك -لاسيما فى المجتمع المصري- وإن كانت قد عُرِفت أيضـًا فى المجتمعات الشامية؛ وكانت قريبة من طبقة الحكام؛ وإن لم تكن منها، أو مرتبطة على نحو ما بأصولهم الاجتماعية والعرقية.
الأهم من هذا وذاك أن هذه الطبقة التى عُرِفت إجمالًا بأنها طبقة «أولاد الناس»، التى كانت مصطلحـًا اجتماعيـًا بالغ الدلالة ينطبق على قطاع عريض من الطبقة التى ارتبطت اجتماعيـًا باسم أولاد الحكام والأمراء الذين احتكروا مناصب السلطة ووظائفها؛ ولكنهم توزعوا ما بين وظائف الدولة، ووظائف المجتمع التى تولوها فى شتى القطاعات والاتجاهات.
بيد أن أهم ما يتعلق بمصطلح «أولاد الناس» أنه كان مصطلحـًا يتحدث عن فئة ذات وضع اجتماعى ممتاز، سواء على مستوى الدور الذى تقوم به اجتماعيـًا، أو على مستوى الوظائف المنوطة بها وظيفيـًا فى وظائف الدولة المتنوعة اجتماعيـًا، ودينيـًا، واجتماعيـًا، وتعليميـًا.
وإذا كان المماليك عاشوا غرباء عن المجتمع المصري، فإن «أولاد الناس» اتصلوا بجموع الشعب واندمجوا فيه، فقد شاركوا فى حياته ومارسوا أنشطته المختلفة من اتجاههم للعِلم والانشغال ببعض الحرف والصناعات اليدوية، حتى ذابوا فى الشعب المصري. تميز من أبناء هذه الطبقة بعض من ظهروا وبرزوا بمؤلفاتهم فى مجال التاريخ والتراجم، ومنهم ابن إياس وابن تغرى بردي.
بيد أننا يجب أن نشير إلى أن «أولاد الناس» قد شاركوا فى الحياة السياسية سواء من خلال مناصرة السلاطين ضد الثائرين عليهم أو تآمرهم على السلاطين والمشاركة فى خلعهم، ويرجع ذلك إلى تولى فريق منهم مناصب عسكرية مهمة ولجوء الدولة إليهم فى بعض الأوقات لصد غارات العربان. وكما شارك «أولاد الناس» فى حفظ الأمن والنظام العام، والتصدى لغارات الصليبيين، فإنهم تزعموا بعض الفتن والقلاقل ضد السلاطين من أجل أن تكون لهم السلطنة.
أما عن كيفية تمضية «أولاد الناس» لأوقاتهم، فقد كانوا يقضونها فى ممارسة بعض الألعاب والرياضات كالفروسية ولعب الكرة ورمى الرمح والنشاب وما إلى ذلك، أو يبدؤون فى الاختلاف إلى مجالس العِلم كما كان بعضهم ينضم إلى الحلقة ليكون من جنود الجيش المملوكي.
وكانت لتلك الثروات التى يرثونها عن ذويهم أو الإقطاعات التى كان السلاطين يمنحونها لهم تكفل لهم العيش فى رغد وهناء وحياة متنعمة، ويمكن القول إنهم من الطبقة الحاكمة وإن عاشوا على الهامش منها.
ولكن ليست الحياة هى الرغد والدعة والهناء فقط، فقد حدث أن تعرض «أولاد الناس» لعدة متاعب فى خلال الفترات التى كانت دولة المماليك تعانى تدهورًا أو اضمحلالًا، ولما لم يستطع السلطان قايتباى فى سنة 873هـ الإنفاق على أصحاب الجوامك منهم فقد عزم على اختبارهم بنفسه لإرسالهم فى إحدى الحملات أو مطالبتهم ببدل نقدي، فامتنع البعض منهم وادعى -على حد قولهم- بأن «غالبهم ما يملك عشاءه، ولا فرسـًا يركبه، ولا بدلة يلبسها ثانية غير ما هو لابسه إن لم يكن استعاره». ورمى البعض منهم بـ«جامكيته» أى تنازل عن مكانته ووظيفته ولم يقبلوا من قايتباى ذلك.
ومما تجدر الإشارة إليه أن عصرى الناصر حسن (سلطته الأولى والثانية) والأشرف شعبان، يعدان عصرين ذهبيين لأبناء هذه الطبقة؛ حيث تمت ترقية عدد لا بأس به منهم فى الإمارات المختلفة والمناصب الإدارية.
يبقى القول إن «أولاد الناس» بمشاركتهم المجتمع أفراحه وأتراحه، من احتفالات زواج وميلاد وختان ومآتم وأحزان، والظروف السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية التى أحاطت بهم، جعلتهم أقرب طوائف المماليك إلى الشعب المصرى وأكثرهم ارتباطـًا به وإحساسـًا بمشكلاته وأصبحوا مصريين منشأ وحياة.
