من الطبيعي أن يهرم الإنسان ويشيخ وتعتريه الأمراض حتى توافيه المنية، وتستخرج له شهادة الوفاة إيذانا بدفنه، وما ينطبق على الفرد ينسحب على الدول والكيانات والتنظيمات في كل زمان ومكان، وليس أدل على ذلك سوى ما حدث لجماعة الإخوان، الجماعة قد بلغت من العمر عتيّاً - 85 عاما بالتمام والكمال - شهدت سنوات الصعود والفتوة والقوة وصلابة العود والصراع على السلطة بقوة في العصر الملكي وبعد ثورة يوليو 1952، في محاولات باءت جميعها بالفشل والخيبة والقبوع داخل غياهب السجون أو الجحور في تنظيم سري محظور يعمل تحت الأرض، ما أصاب عزيمة الجماعة بالوهن.
وعندما اندلعت ثورة 25 يناير 2011، كانت الجماعة قد تخطت الثمانين من العمر ووصلت إلى سن الشيخوخة، دون أن تكلف نفسها بإجراء مراجعات جادة لفكرها، ودون أن تجدد شبابها وتدفع بالدماء الجديدة التي تكفل لها الصعود الرصين الواثق بعد الثورة لتولّي أمر البلاد والحكم، ولكن بدلا من ذلك وجدنا أن أعراض الخرف والشيخوخة وعقول العواجيز الخربة والمؤمرات والكذب والعنف بدأت تظهر على تقاسيم وجه الجماعة.
وأول هذه الأعراض هي خيانة ثورة يناير التي لحقوا بها متأخرا، وذهبوا ليبيعوها إلى اللواء عمر سليمان، الذي جلسوا معه حتى قبل تنحي مبارك، وكان محمد مرسي - الهارب من سجن وادي النطرون - هو أول الجالسين، ذهبوا ليبيعوا الثورة مقابل تأمينهم وحصولهم على الاعتراف بالجماعة وتأسيس حزب لها مقابل الانسحاب من ميدان التحرير.
وعنما بدأت العملية الديمقراطية، بدأوا يمارسون الكذب والنصب السياسي، فقد أعلنوا أنهم لن يدفعوا بمرشح للرئاسة، فإذا بهم يدفعون بمرشحين، وأنهم لن ينافسوا سوى على ثلث مقاعد مجلس الشعب فإذا بهم ينافسون على كل المقاعد، وأنهم - حرصا على أن يكون البرلمان ممثلا لجميع المصريين - شكلوا تحالفا من 40 حزبا، واطمأنت هذه الأحزاب إلى الجماعة ولم تقم بحملات دعائية أو تحاول التواجد بين جمهور الناخبين في الشارع، اعتمادا على أنها جزء من التحالف، فإذا بها تستيقظ على أكبر عملية نصب سياسي من الجماعة التي قامت بتوزيع مرشحيها على رؤوس القوائم، ووضعت مرشحي الأحزاب في ذيولها.
وفي سعيها الحثيث نحو التمكين، انسحبت الجماعة من الشارع الثائر وبحثت عن مصلحتها فقط، وتركت الشباب يقتل ويُسحل وتفقأ أعينه في أحداث محمد محمود الأولى وأحداث مجلس الوزراء، ومضت على جثثهم إلى البرلمان، بل نالت من سمعتهم وشرفهم الثوريين، وباعتهم بدراهم معدودة، ونزعت عنهم الشرعية الثورية عندما قالت إن الشرعية للبرلمان وليست للميدان.
ولعل المشهد الفارق - والذي كنت شاهد عيان عليه في قلب ميدان التحرير في الذكرى الأولى لثورة 25 يناير 2012 - هو حينما رفع بعض الشباب الأحذية في مقابل منصة جماعة الإخوان في الميدان في وقت متأخر من تلك الليلة، لأنهم جاؤوا يحتفلون بالبرلمان والتمكين في حين أن ثمة منصة في الميدان تحيي ذكرى الشهداء، وتحاول أن تمسح دموع الأمهات الثكلى وتخفف من أنات المصابين، وقد التقطت أنا وابني أحمد صورا لهذا المشهد الفارق ورفعناها على صفحتينا على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، ونلنا من الشتائم والسباب من الميليشيات الإلكترونية للجماعة قبل أن يتم نشر صور ومقاطع فيديو مماثلة بعد ما يزيد على 14 ساعة على مختلف المواقع الإخبارية.
ومنذ ذلك الحين، بدأ السقوط المدوي للجماعة بحكم أمراضها المزمنة، حتى أنه يمكن القول إن محمد مرسي حينما وصل إلى كرسي الرئاسة كانت جماعة الإخوان قد ماتت إكلينيكيا في ضمير الشعب المصري الواعي، وقد اتضح ذلك من الانهيار غير المسبوق في شعبيتها من الانتخابات البرلمانية إلى الانتخابات الرئاسية، علاوة على الفوز المشكوك فيه لمرسي، وتهديدات الإخوان بحرق البلد إن لم يحكموه.
إن وصول جماعة الإخوان إلى الحكم وهم في حالة الوفاة الإكلينيكية كان يحتم عليهم محاولة إنقاذ أنفسهم عبر إقامة جسور الثقة مع الشعب، ولكنهم استمروا في أعراض أمراضهم بالتمكين والأخونة والإقصاء والتهميش والاستعلاء على الشعب الذي انتخبهم، وانطلق محمد مرسي وجماعته - بغباء منقطع النظير - يرفعون الخراطيم التي ما زالت تبعث الحياة في جسد الجماعة الميتة إكلينيكيا، فتارة يفخر بنجاحه "الفاشل" في مشروع المئة يوم، وتارة يدعو قاتلي السادات إلى حضور ذكرى الانتصار بحرب كان هو قائدها، وتارة يصدر إعلانا دستوريا مشؤوما يمنح نفسه فيه سلطات الفرعون الإله، وتارة يحرض على الشيعة، ولم يكن مرسي يعلم أنه - بكل فعل من أفعاله - يقطع شريانا من الشرايين التي تبث الحياة في جسد الجماعة الميت.
وبعد 30 يونيو، كان البعض يراهنون على حنكة الجماعة السياسية في إنقاذ التنظيم والتضحية بمرسي، ولكن خاب رهانهم وقامت الجماعة - تعضدّها قوى خارجية أغرتها بإحداث الفوضى وخراب البلاد - بالمقامرة بكل شيء، بماضيها وحاضرها ومستقبلها السياسي، بمرسيها بقياداتها بشبابها، وسلكت دروب العنف والإرهاب والترويع وأعلنت الحرب على مصر والمصريين في سيناء والوجه البحري والصعيد، وكل ذلك وعقلاء هذا الوطن يتمهلون في عدم وصم الجماعة بالإرهاب عسى أن يعود لها رشدها، إلى أن وقعت الطامة الكبرى في تفجير مديرية أمن الدقهلية بمدينة المنصورة، وهو الحادث الذي كتب شهادة وفاة الإخوان بعد أن نزعت الجماعة عن نفسها كل شرايين الحياة.
أيها الإخوان، أنتم من كتبتم بأيديكم شهادة وفاتكم من خلال أفعالكم البغيضة منذ قيام ثورة 25 يناير وحتى حادث المنصورة الإرهابي، وإذا كان الشعب قد كتب سطرا في شهادة وفاتكم بخروجه عليكم في 30 يونيو، وإذا كان الفريق السيسي قد كتب سطرا آخر في 3 يوليو بإعلانه خارطة المستقبل، وإذا كان الببلاوي قد كتب سطرا ثالثا في 26 ديسمبر بإعلانكم تنظيما إرهابيا، فتأكدوا أنكم من كتب سائر سطور شهادة الوفاة.
إن شاهد مقبرة الجماعة مكتوب عليه: ولدت عام 1928 وماتت عام 2013.