حدث يوما ما أن بعثت مع أحد العاملين معي - حين كنت في أواخر السبعينيات مستشاراً لمنظمة دولية في واحدة من الدول العربية، يتمايز فيها أبناء السنة عن أبناء الشيعة تمايزاً واضحاً - بحزمة من الخطابات موجهة إلى مجموعة من الأصدقاء بالقاهرة لوضعها في صندوق البريد، فإذا به يعود بعد فترة وفي يده أحد تلك الخطابات. واستفسرت منه عن عدم إرسال ذلك الخطاب، فقدّمه لي متردِّداً طالباً مراجعة اسم المرسل إليه، وحين نظرت إلى اسم الصديق الراحل "علي عمر"، عدت إلى الرجل مستفسراً مندهشاً "أين الخطأ؟"، وبدا عليه الحرج وتأسّف معتذراً، وعلمت بعد ذلك أن ما استوقف انتباهه هو الاسم الذي بدا له غريباً، شخص يحمل اسم الإمام علي بن أبي طالب، بينما يحمل أباه اسم الخليفة عمر بن الخطاب، قد يكون ذلك أمراً مألوفا لنا نحن المصريين، ولكنه بدا أمراً غريباً على مسامع ذلك الشاب الشيعي البسيط، اسم رمز إسلامي شيعي مقدس يلتصق باسم رمز سني بارز.
وتذكرت كيف أنه كان لي منذ سنوات طوال صديق مهندس شاب، سافر إلى العراق بحثاً عن الرزق، وكان أول ما اهتم به - كالعادة - البحث عن مسكن رخيص نسبياً يمكّنه من الادخار، ودله زملاؤه على منزل مناسب في أحد أحياء بغداد، وكان حياً شيعياً، وروى لي صديقي عندما التقينا في القاهرة بعد عودته، أنه كان يصلي مع جيرانه دون أن يستوقفه اختلاف صيغة الأذان لدى الشيعة عن الصيغة التي ألفها في القاهرة، حيث يتضمن الأذان الشيعي عبارة "حي على حسن العمل"، وهي إضافة أثارت - وما زالت تثير - كثيراً من الجدل في أوساط المهتمين بالتمايز المذهبي، وفسّر لي صديقي الأمر تفسيراً مصرياً بالغ البساطة هو "وما البأس في أن يدعونا المؤذن إلى حسن العمل"، وبعد مرور فترة، عرف أن جيرانه في سبيلهم لزيارة مراقد أهل البيت، فصاحبهم في الزيارة وشاركهم بكاءهم، ولعلّه فاقهم في البكاء، "فضلاً عن تأثري بذكر معاناة الحسين وتفاصيل مصرعه وقطع رأسه، فقد تذكرت غربتي عن أسرتي في مصر"، واقترب منه واحد من الشيوخ المسؤولين عن المرقد مربتاً عليه: "من أين يا أخي؟"
- "من مصر"
- "مرحباً بك، تراك تعرف لمن هذا المقام؟".
وحين أخبره صديقي بالاسم سأله: "أتعرف ظروف مصرعه؟"، أجابه: "بالتأكيد، كان يقاتل في جيش سيدنا الحسين رضي الله عنه ولقي مصرعه على أيدي جيش سيدنا معاوية رضي الله عنه"، وروى لي صديقي كيف أنه فوجئ بعلامات الاندهاش الشديد تغطي ملامح الشيخ: "هل تترضى على القاتل والقتيل يا بني؟"، وكانت إجابة صديقي التي زادت من اندهاش الشيخ: "أليسوا جميعاً من صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام؟!".
وعدت بذاكرتي بعيداً إلى سنوات الطفولة والمراهقة حين بدأت خطواتي الأولى للصلاة في زاوية صغيرة قريبة من منزلنا، وأذكر أنني في خضم تمرّد المراهقة قمت بمحاولة التعالم على والدي وتصويب أدائه للصلاة، حيث لاحظت أنه يرسل يديه في حين أن شيخي في الزاوية كان يصلي بنا ضاماً يديه إلى صدره، واندهش والدي قائلاً: "إنني يا بني لا أعرف السبب في هذا الاختلاف، ولكن هكذا وجدت صلاة أبي وجدي"، وآثرت الصمت - ربما خوفاً من إغضاب والدي - ومضت سنوات طويلة لأكتشف أن صلاة والدي كانت على مذهب المالكية الذي ينفرد بتلك الإباحة، والذي ينتشر في الصعيد حيث أصل أسرتي.
هكذا نحن المصريين البسطاء، لم نعرف التمذهب ونسأل الله ألا نعرفه، وأن تظل صدورنا مفتوحة لتقبل الجميع.