عندما اجتمع المسيح مع تلاميذه فى العلية عند العشاء الأخير، قبل أن يتوجه إلى الصليب. كسر الخبز ووزع عليهم. ثم أخذ الكأس وأعطاهم، كيما يشربوا قائلًا: «هذه الكأس، هى العهد الجديد بدمى الذى يسفك عنكم» (لوقا ٢٢: ٢٠).
إن صورة شرب الكأس، تتكرر مرات عدة فى الكتاب المقدس. يتحدث النبى أرميا عن، «كأس سخط الله، الذى سقاه للشعوب بسبب خطاياهم». قال الله للنبى أرميا، «لأنه هكذا قال الرب إله إسرائيل، خذ كأس خمر هذا السخط من يدى، واسقِ جميع الشعوب التى أرسلناك إليهم إياها. فيشربوا ويترنحوا ويتجننوا من أجل السيف الذى أرسله أنا إليهم. فأخذت الكأس من يد الرب، وسقيت كل الشعوب التى أرسلنى الرب اليهم» (ارميا ٢٥: ١٥ و١٦ ). فكأس خمر ارميا، التى شربتها الشعوب، أشارت إلى غضب الله على شعبه، ورفضه ودينونته له، لأنه تركه وتمرد على شريعته. ويتحدث النبى حزقيال، عن شرب شعب السامرة كأس الحزن، والحيرة والخراب والاستهزاء. خاطب النبى حزقيال الشعب، قائلًا: «هكذا قال السيد الرب. إنك تشربين كأس أختك العميقة الكبيرة. تكونين للضحك وللاستهزاء. تسع كثيرًا. تمتلئين سكرًا وحزنًا، كأس التحيّر والخراب كأس أختك السامرة» (حزقيال ٢٣: ٣١ و٣٢).
يطلعنا البشير متى (٢٦: ٣٦-٤٦)، على صراع داخلى ونفسى كبير، عاناه المسيح فى بستان جثيمانى، فى الليلة التى أسلم فيها. فحالة المسيح كانت حالة حزن وكآبة شديدة. قال المسيح لتلاميذه «نفسى حزينة جدًا حتى الموت» (متى ٢٦: ٣٨). صلّى يسوع الى الله طالبا منه، أن يجنبّه شرب كأس الموت قائلًا: «يا أبتاه، إن أمكن فلتعبر، عنى هذه الكأس. ولكن ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت» (متى ٢٦: ٣٩). يصف المسيح نفسه حالته الروحية والنفسية، فى بستان جثيمانى، فيقول: «أما الروح فنشيط، وأما الجسد فضعيف» (متى ٢٦: ٤٢). يرى بعض المفسرين، أن قول المسيح هذا، يشير إلى أن هناك إرادتين تتصارعان داخل المسيح: الإرادة الإلهية الروحية، التى ترغب فى طاعة الله، وشرب كأس الموت. والإرادة الإنسانية الجسدية، التى ترغب فى تجنب شرب تلك الكأس المرةّ. فى طلبة المسيح الأولى، كان يتلمّس المسيح، إمكانية تجنّب شرب كأس الموت، بل كان يستشير الله بشكل ضمنى، لرؤية إمكانية، تأسيس ملكوت الله دون ضرورة شرب هذه الكأس. لكن المسيح، مع أنه كان مدركًا سابقًا أن شربه كأس الموت، هو ضرورة بل مشيئة إلهية، من أجل خلاص وفداء الإنسان. فإنه فى صلواته فى المرتين: الثانية والثالثة، خضع لمشيئة الله، قائلًا له، «يا أبتاه، إن لم يمكن أن تعبر عنى هذه الكأس إلا أن أشربها، فلتكن مشيئتك» (متى ٢٦: ٤٢).
وحين جلس المسيح مع تلاميذه فى العشاء الأخير، فقد أوضح لهم معنى موته، قائلًا: «شهوة اشتهيت أن آكل الفصح معكم، قبل أن أتألم» (لوقا ٢٢: ١٥ ). ثم أخذ خبزًا، وشكر، وكسّر وأعطى تلاميذه، قائلًا «هذا هو جسدى الذى يبذل عنكم. اصنعوا هذا لذكري» (لوقا ٢٢: ١٩). فيسوع يبذل جسده لأجل تلاميذه على الصليب، مذكرًا إياهم وإيانا، بأن جسده هو خبز الحياة، النازل من السماء، الواهب حياة للعالم. ثم رفع المسيح الكأس، وقال: «هذه الكأس هى العهد الجديد بدمى، الذى يسفك عنكم» (لوقا ٢٢: ٢٥). فالكأس التى شربها المسيح بموته على الصليب، هى الكأس التى أسّست عهد الله الجديد، مع شعب الله الجديد الذى هو، الكنيسة، جماعة المؤمنين.
إن كأس الموت التى شربه المسيح فى العشاء الأخير، والتى تحقّقت على الصليب، تحمل فى طياتها، كل معانى ومندرجات الموت، التى ذكرها النبى ارميا، والنبى حزقيال، كما أشرنا سابقًا، أى معاني: الغضب، والدينونة، والألم، والحزن، والحيرة، والاستهزاء، والخراب، واللعنة.. إلخ. هذه المشاعر كلها، قد اختبرها المسيح على الصليب، حين شرب كأس الموت، ليؤسس معنا عهدًا جديدًا، حتى بموته تكون لنا حياة ويكون لنا أفضل.
ترقبوا المقالة المقبلة.. ماذا يعنى الصليب؟